لماذا بقي حزبُ سعاده؟

يحمل مشهد مواجهة انطون سعادة لحكم الإعدام دلالة كبيرة. فصلابته وثباته وهو في طريقه إلى الإعدام تُقارن بتجارب قليلة أخرى، كتجربة الأمين إنعام رعد في سجون المكتب الثاني أو حتى تجربة ميشال عفلق (بعيداً من القياس والتشبيه). كما تُقارن صلابته ورباطة جأشه بمشهد “شهداء لبنان” عام 1916 ، الذين لم تتحمل ركاب بعضهم حملهم إلى حبال المشنقة، فجرّوا إليها جرّاً وهم ينتحبون ويرجون جلّاديهم الرّحمة (بعيداً من القياس والتشبيه).

لو واجه سعادة موته بقدرٍ أقل من القوّة والشّجاعة لكانت رسالته إلى الأمّة مختلفة، وغالباً كان ليكون ميراثه أقلّ تأثيراً.

هذه الصلابة التي أظهرها سعاده، عرفتها الثورة الليبية ضد إيطاليا كما الجزائرية، لكنها أكثر ندرة في التجارب الحزبية المشرقية.

إبتسم سعاده بوجه جلاديه وشكرهم، لكنه لم يتنازل قدر شعرة عن عقيدته، ونجح فيما تركه أن يخرّج المناضلين من طينة صلبة.
هؤلاء المناضلون، إفتقرت إليهم بعض الأحزاب اليسارية التي تحوّلت بعض قيادتها إلى اليمينيّة والحريريّة، فالقومي السّوري لا يرتد. قد ينعزل في منزله، ويبتعد عن العمل السّياسي، قد يهاجر ويترك الحزب، لكنه لن ينضم لحركة معاديّة.

يكمن سرّ هؤلاء المناضلين بالمؤسسات التي تركها سعاده خلفه بعد إستشهاده، فسعاده حافظ على المؤسسة الحزبية فيما فشلت بقيّة أحزاب المنطقة أن تمأسس العمل الحزبي أو حتى ترسخه. فالنموذج العام لهؤلاء الأحزاب، أن يبصم كل زعيم على المؤسسة الحزبية ويأخذها معه ومع أمواله حال رحيله أو موته.
فكم من قائد عربي ألهم الملايين في حياته وفشل بالحفاظ على إلهامه بعد موته تاركاً جماهيره دون عقيدة أو مؤسسة حزبية تذكر؟
سعاده ترك العقيدة والمؤسسة معاً، وقدرة المؤسسة على طرد من تربع على زعامة الحزب مدعوماً بالتجربة العسكريّة في الحرب الأهلية، تشير إلى ديناميكية مستمرة في عمل حزبه.
أما ثبات مناضليه، فيمكن رده في إهتمام الحزب بالتنشئة العقائدية فيما أهملتها بقيَة الأحزاب اللبنانية خاصة اليساريّة التي لم تطلب من أعضاءئها التّمرس بعقيدتهم أو حتى تراثهم. فكانت مدارسهم “تنتف” ما كتبه لينين في «ما العمل؟» وتهمش «الدولة والثورة» في ما للأخير من نزعات فوضويّة ولما في الكتاب الأول من نخبويّة شيوعيّة تشرب الوعيّ الطبقي بالملعقة. وحدها الجبهة الشعبية أنتجت كتيّبها الخاص «الإستراتيجية السياسية والتنظيمية» -وهو بقلم جورج حبش، كتبه فترة بُعد الجبهة عن موسكو وقربها من بكين -أخذت وضعيّة الكتاب عن «تحليل الطبقات في المجتمع الصيني» لما تسي تونغ. فتفوق الحزب القومي لأن أدبياته كانت ابنة الأرض، مرتبطة بواقعها وتقارب مشاكل المجتمع السوريّ. والفكرة/المبدأ الذان ينبثقان من رحم المجتمع، يخدمان شعبه.