إنها الذكرى الرابعة والسبعين لاغتيال أنطون سعاده مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي في الثامن من تموز 1949. هو أشبه باغتيال أمة بكاملها، عندما اغتالت عقلاً وفكراً نهضوياً هدفه أكبر من كيان وأكثر من سلطة. بالتالي هي أبرز عملية اغتيال للعقل، فنرى قرار الجمهورية اللبنانية بإعدام أنطون سعاده بالرصاص في ليل مدلهم بالسواد. وفي مراجعة للتاريخ هي أشبه ما يكون باغتيال سقراط الفيلسوف في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، في محاكمة انتهت إلى قرار القتل بالسم وفي بعد زمني يصل إلى مئات السنين لابل الألفي عام، هي وبكل أسف العقلية نفسها المستمرة بتسويق الإتهامات والإشاعات ثم تبنيها .
سقراط يومها اتهم بالتحريض ضد الحكومة الأثينية وبالإلحاد وإفساد الشباب، وكانت عملية إعدامه أول إعدام في التاريخ بسبب الأفكار، وقد تناقلت الأجيال قصة إعدامه على لسان الشاهد عليها تلميذه أفلاطون.
دون أن ننسى أن اغتيال المفكرين والفلاسفة استمر طويلاً في تاريخ بلادنا، وكانت الإغتيالات تتم بأشكال متعددة ولكنها جميعها استندت الى تكفير العقل.
أما أنطون سعاده الذي اغتيل بعدما ساد في الأمم القانون الناظم للعلاقات بين الأفراد وفي الدول، لما حملته أفكاره من قوة مواجهة وقوانين إصلاحية لمجتمعه والتي شاء أن يطرحها في ثورة تأسيسية تعيد إنشاء النظام على اسس نهضوية بناءة.
وهذا أدى إلى تكاتف ضده من القوى الداخلية المستندة إلى دعم مشاريع وقوى خارجية، أدركت حجم ومخاطر قدرات عقيدته ووعيه، فكان تضافر لجهود الخارج والداخل في حكومتي لبنان والشام، للتخلص من أعباء وجوده.
اليوم يعود إعدام أنطون سعاده إلى الواجهة بعدما تأكد مدى حاجة هذه البلاد إلى قائد ومفكر بحجمه وبعدما ثبت يقيناً صحة الأفكار التي طرحها، سبيلاً وحيداً لإصلاح الواقع التي تعيشه اليوم وقد بتنا في أسوأ انحدار وصل إليه النظام السياسي وتداعياته على الحاضر والمستقبل.
من يراجع صفحات وقائع الإعدام لأنطون سعاده، يدرك حجم التزوير والظلم الذي ألحق به وحزبه وعائلته. وأخيراً وليس آخراً، أمته التي أعلن مراراً انه يقف نفسه على أمته ومن أجلها حياته.
لم تكن ثورته على النظام الذي ارتكب التزوير للانتخابات وقضى بترسيخ حكم الإقطاع والطائفية هي السبب لإعدامه، رغم اعتبارها الجرم الأساسي وكانت هي التهمة التي استُند عليها لإعدامه، بل أن موقفه المواجه لما كان يعد للمنطقة من مؤامرة دولية صهيونية أعلن مراراً رفضه التعاون أمامها، منذ خطابه عند العودة عام 1947، وإلى دعواته المتكررة لمواجهة الخطة الصهيونية.
اتهموه بالإرهاب، وبنشر عقيدته عنوةً. واتهموه بتخريب المجتمع، علماً أنه أكد على ضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي الجذري في لبنان.
كانت دعوته إلى التمسك بوحدة المصير القومي في مواجهة العدو الصهيوني، أبرز اتهام له بمعاداة الكيان اللبناني، واستقلاله وهذا ما استغله دعاة الكيانية وجعلوا من حزبه عدو الكيان الأول، وليس التمزيق الحاصل للنسيج الاجتماعي وتقسيم الارض، هو عدو هذا الكيان وكذلك التدمير القائم للأمة وكل كياناتها وثرواتها .
وهكذا حولت السلطة السياسية من أنطون سعاده المبشر بالقومية الإجتماعية، إلى مهدم للمجتمع، ومن مفكر وفيلسوف يعمل بالإقناع، إلى عامل بالعنف وهكذا حوله المدعي العام يوسف شربل ودولته، من زعيم حزب إلى زعيم عصابة.
لدى الإطلاع على أوراق “قضية الحزب القومي” الذي أصدرته الدولة اللبنانية، عن الحزب، يتبين حجم الإفتراء على سعاده واتهام حزبه بالنازية والفاشية تارة بسبب شعاره الزوبعة، في حين أن رفيقاً مهندساً من رأس بيروت من آل مقدسي، كان شريكاً لسعاده في رسم هذا الشعار الجامع لوحدة الأمة بالهلال والصليب، وطوراً، بمزاعم عن لقائه مع قادة ألمان لدى مروره بألمانيا في إحدى سفراته، وهو أمر لم ينكره ولكنه لم يترك أثره على الحزب إلا ببعض المظاهر النظامية التي أعجبته.
أما أبرز الاباطيل التي اتهم بها فهي الزعم بمحاربته لليهود في فلسطين. والقصة معروفة عن محاولات تزويرالسلطة اللبنانية بربط منفذ عام عكا محمد جميل يونس ورفقاء الجليل، بعلاقة تعامل من خلال رسائل، زاعمين أنها تمت بعلم الزعيم. وقد تم جلاء هذا الأمر، أثناء محاكمة القوميين بعد إعدام سعاده حيث بيّن المحامي أميل لحود براءة الحزب من هذا الاتهام ورده إلى أهله، أي إلى أعضاء من حزب الكتائب الذين كانوا يحملون رسائل توصية من بيروت تسهل لهم العمل عند الإسرائيلي والحقيقة أن الموقف الجذري لسعاده من الكيان الاسرائيلي ثابت بما لا يقبل الشك، وهو الذي أكد على “علاقة الحديد والنار مع هذا العدو “لا غير.
كل المعلومات الموثقة عن المحاكمة الصورية التي أجرتها الدولة اللبنانية لسعاده، تؤكد أنها كانت بعيدة عن القانون وعن العدالة، أن من خلال منع إعطاء الأذن لمحاميه أميل لحود لإعطاء دفاعاته ولو بمهلة 24 ساعة وهذا ما دفعه الى اتهام السلطة مباشرة بصورية المحاكمة .
والواضح أن النية بقتل سعاده كانت محسومة منذ اعتقاله في دمشق بتواطئ مع حسني الزعيم، وصولاً إلى محاولة قتله على الطريق بين دمشق وبيروت، حسبما أكد مدير الأمن العام اللبناني المير فريد شهاب والذي كان برفقته أنذاك .
أيضاً الكلام الذي قاله أميل تيان وزير العدل يومذاك والذي استدعي على جناح السرعة إلى القصر الجمهوري ليل 8 تموز للنظر في حكم الإعدام الصادر عن المحكمة العسكرية، فرفض لاعتبارات دستورية مطالباً بتحويل الحكم إلى قصر العدل في اليوم التالي، ولم يحصل ذلك فالعجلة كانت تقتضي التخلص منه بسرعة .
المعلومات التي أشرنا إليها أعلاه عن تلك الليلة، تظهر بوضوح أن حكماً عرفياً كان قد أبرم “بقتل سعاده” وليس محاكمته أو إظهار براءته. لا ننسى أيضاً استدعاء كاهن على عجل ليعّرفه، وجهوزية “التابوت” – النعش، وتحديد المكان الذي ستجري فيه عملية الاعدام بالرصاص وثم الدفن وكل ذلك في الليل والظلمة.
لم تتمكن سلطة القضاء المرتهنة للسياسة أن تتمهل التنفيذ لحين إعداد ملف الدفاع عند المحامين، وتركته يدافع عن نفسه بنفسه، كما لم تسمح له برؤية أسرته ليودعها. وهذا أمر تكفله القوانين المدنية والدينية، بل على العكس أخذوا عليه انه طلب رؤيتهم ليودعهم.
يقول الكاهن الذي عرفه، الأب برباري، “تمنيت لو أخفيه بين طيات ثوبي وبين أوراق انجيلي ” وقد هاله أن تصل سلطة إلى هذا الحد من الجريمة في قتل إنسان مفكر وفيلسوف، وقد رآه شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، لا بل متواضعاً لا يريد شيئاً لنفسه.
هل كان يدرك سعاده أن ثورته هذه ستوصله إلى المقصلة؟ وأن حزبه سينحل؟ وأن قيادة حزبه ستتوزع بين السجن والفرار وكذلك الإعدام، وقد أعدم معه ستة من أعضاء الحزب، تم توزيعهم على أساس طائفي (ستة وستة مكرر) وعكس قناعاتهم وقناعات زعيمهم بالكامل؟
بعد إعدامه، تميز استجواب النائب الراحل كمال جنبلاط للحكومة اللبنانية مفنداً المخالفات القانونية التي ارتكبت والضغوط الدولية التي فرضت قرار الإعدام. أما الإعلامي غسان تويني، فكان عنوان افتتاحية جريدته النهار يوم الإعدام “المجرم الشهيد”، اختصار واضح لمزاعم السلطة وتزويرها، وهي أدت لسجنه، وكذلك اتهم المحامي الكتائبي ادمون رزق فعل الإعدام لسعاده بأنه كان اغتيالاً.
كخلاصة يمكن الاستنتاج هنا أن اغتيال سعاده أدى إلى اغتيال مشروعه السياسي الإصلاحي وليس اغتيال شخصه وحسب، فقد كانت أبرز استهدافاته إلغاء هذا النظام السياسي الطائفي التحاصصي الإقطاعي الفاسد وإحلال معايير حديثة لنظام الحكم، أبرزها فصل الدين عن الدولة، وبناء الدولة المدنية، وتعزيز المواطنة وكذلك إلغاء التناقضات بين مختلف كيانات الأمة وجعلها تقتفي أثر الدول العظمى الموحدة القوى اجتماعياً واقتصادياً ومالياً، إن من خلال السوق المشرقية أو الدول المتعاونة فيما بينها والقوية بجيشها القوي الواحد، لمواجهة الكيان الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في بلادنا أداة إضعاف واستنزاف لقدراتنا.
إن اصرار القوميين الاجتماعيين اليوم على إعادة محاكمة سعاده هو بالمبدأ، رد اعتبار ليس لزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي المفكر والفيلسوف، بل لدولة القانون في لبنان، وبيروت عاصمة الشرائع، وفيها اول معهد للحقوق في العالم.
إن إعادة محاكمة سعاده أو رد الاعتبار لفكره هو استنهاض لمعايير أساسية يريدها شباب الوطن أبرزها الحرية للفكر وليس تكفيره. إنه رد اعتبار لبرنامج نهضوي جامع لأبناء الأمة الواحدة الموحدة لابنائها خياراً أساسياً لنهوضها وإعادة استقطاب شبابها بأحلامهم وطموحاتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة. إنه برنامج للقوى المواجهة والمصارعة اليوم لبناء هذا النظام السياسي اللبناني من جديد وجعله مشروعاً صالحاً لكل كيانات الأمة، فهل من يجرؤ؟