وصلت الخلافات المحتدمة في الساحة السياسية في لبنان الى حد تهديد وحدة البلاد. انه تعبير عن تناقضات حادة في المنطلقات الوطنية، ومن بين هذه المقدمات قانون الأحوال الشخصية، الذي يعتبر أحد ركائز هذه المقدمات المهمة، وهو ما يفسر بدوره هذا الانقسام والتناقض ليس فقط في السياسة، بل في العائلة والمجتمع معا.
النظام السياسي في لبنان هو الوجه الآخر لنظام الاسرة القائم على التمييز واللاعدالة وانعدام المواطنة. إذا كان الحب والدفء في العلاقات في العائلة من اهم العوامل في تكوين ونسج علاقات سليمة ومتينة، فلماذا إذا استمرار التمييز وعدم المساواة وانعدام العدالة بينهم؟
هل تعكس ممارساتنا اليومية في حياتنا العائلية مطالبنا في تعديل او تغيير أنظمة الأحوال الشخصية المختلفة؟ هل حقاً نطبق العدل والمساواة في بيوتنا قبل المطالبة بها؟ ام نستفيد من الظلم وعدم المساواة لإرضاء غرائزنا وجشعنا؟
من هنا، اوّد ان اشير في كلمتي الى نقطتين مهمتين، وهما الحرية الشخصية واهمية المساواة في حقوق الميراث للمرأة، ولماذا نحتاج اليوم وأكثر من قبل الى دولة قانون تقوم على العدل والعدالة الاجتماعية والمساواة وتعزيز الحرية الفردية لتحقيق نفسها؟
أولا: ما هي السمات المشتركة بين النظام الطائفي ونظام العائلة:
لو كانت العدالة والمساواة من سمات منظومة القيم في العائلة والمجتمع والنظام السياسي اللبناني لما وصلنا الى ما نحن عليه اليوم. مجتمع ونظام يشترك فيه الفساد والتمييز والانتهازية والولاءات العمياء والخضوع وعدم الاكتفاء ولا الامان ولا الرحمة.
من خلال التجربة الطويلة اتضح ان الحل السياسي لا يساهم الا في تفاقم المشكلات وصولا الى الانهيار التام. كما اتضح ان المسؤولين عن إدارة شؤون الدولة والمواطنين غير قادرين عن انتخاب رئيس للجمهورية في بعض الاحيان وتعيين رئيس للوزراء في أوقات اخرى، بهذا المعنى فقد النظام السياسي الحالي جميع مسؤولياته تجاه مواطنيه. وعندما يفشل النظام السياسي في القيام بدوره في توجيه المجتمع نحو تعزيز العدل والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المواطنين، الى جانب تفعيل الحرية الفردية في تحقيق ذاتها، لم يتبق لنا سوى العمل على تفعيل ارادتنا الفردية في حدود امكانياتنا.
في النظام السياسي الحالي: الديموقراطية هي توافقية وترتكز على المحاصصة بين الطوائف، إذا هذه ليست ديموقراطية انما دكتاتورية مقنعة في نظام برلماني جمهوري. الديموقراطية الحقيقة تقوم على معادلة الاغلبية السياسية والمعارضة. هذا يعني ان التمييز في صلب النظام.
في النظام العائلي: التمييز هو في صلب النظام العائلي الذي يقوم على تكريس اللامساواة بين الرجل والمرأة في التربية والمسؤوليات (الابوة والأمومة ليستا متساويتين). وضعت تلك الفروقات بين الاعمال التي تقوم بها المرأة والاعمال التي يقوم بها الرجل، دور المرأة في مرتبة اقل أهمية نظرا الى ان المجتمع ينظر الى الشخص المنتج ماديّا على انه يحتّل موقعا متميزا في البنية العائلية وفي المسؤولية والحرية في اتخاذ القرارات. هذه النظرة الدونيّة للمرأة، جعلت منها وعبر القرون وصيّة على هذه التقاليد ومدافعة شرسة عنها، فهي بذلك تدافع عن الاستمرارية في توريث وإعادة انتاج الظلم وتجديد التبعيّة تجاه نفسها واولادها. لذا، نرى وفي حالات كثيرة كيف تتصادم الأمهات مع أولادهنّ وبالأخص بناتهنّ الرافضات لتلك التقاليد والأعراف الاجتماعية.
إذا، التمييز هو القيمة المشتركة بين النظام الطائفي ونظام العائلة.
وبهذا المعنى، العدل والعدالة والمساواة والحرية الشخصية تبدأ من العائلة والتي هي الخليّة الأولى المُساهمة في بناء وتطوير المجتمع وقوانين الدولة.
ماذا تعني الحرية الشخصية في العائلة والمجتمع؟
الحب حرية شخصية
الزواج حرية كل انسان
الانسان حر في ان يتزوج او لا
الانسان حر في اختيار اسلوب زواجه
إذا كان الدستور ينص في مقدمته على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، إذا لماذا نرفض او نحذّر او نعترض على حرية الفرد في الحب من طائفة أخرى…. هذا مخالف للدستور.
اما في المادة رقم 10 من الدستور، هناك تناقض بين التعليم الحر وعدم مساس حقوق الطوائف من انشاء مدارسها الخاصة. إذا التربية ليست في المنزل فقط، انما في المدرسة أيضا. ففي ظل وجود هذا التناقض بين الحرية في التعليم والاعتقاد وعدم المساس في حقوق الطوائف…. انحدر المجتمع وانهارت الدولة
إذا كانت الحرية الشخصية ركيزة اساسية في بناء مجتمعٍ حرٍ، عادلٍ، ومتساوٍ، فالمساواة في الميراث بين المرأة والرجل ركيزة أخرى ضرورية تساوي أهمية الحرية الشخصية.
ما هي مسؤولية الفرد في المساهمة في الشعور بالانتماء بدءا من العائلة؟
جرت العادة عبر التاريخ ان مسؤولية التربية والاعمال المنزلية كانت من نصيب المرأة وذلك تماشيا مع النظام الاجتماعي الذي كان سائدا في ذلك الوقت. اما اليوم، أصبح لدى المرأة مسيرة مهنية الى جانب احتفاظها بعملها المنزلي، مما اضحى العبء أكبر عليها مع مساعدة خجولة من الرجل. فعلى الرغم من قيامها بمسؤوليات أكبر، الا ان حقها في الميراث لا يزال غير متساوٍ الى محظورٍ عليها.
لذلك، وفي هذا السياق، ومع التحّول الحاصل في المجتمع، يجب على القوانين والمسؤوليات ان تتغير أيضا. على الرجل توّلي دور أكثر فعالية في الرعاية، لان ذلك يؤثر بشكل مباشر على صحته وصحة الام والطفل معا.
تعتبر جميع قوانين الأحوال الشخصية في لبنان ان للمرأة حقوق اقل من الرجل وذلك لاعتبارات دينية، تقليدية تاريخية بالإضافة الى الأعراف الاجتماعية. علماً ان القانون الطبيعي بين الام وطفلها له نظامه الخاص وقانون طبيعي بعيدا عن القوانين المكتوبة. كيف يمكن للاحكام الدينية والتقليدية ان تكسر هذا القانون الطبيعي؟
من هذا المنطلق:
أهمية المساواة في الميراث للمرأة ضرورية للأسباب التالية:
- الاعتراف بكيانها المستقل
- منع العنف والظلم ضد المرأة والأطفال (خاصة في حالة الطلاق)
- ضروري للازدهار الاقتصادي
- المساواة في الوصول الى الموارد والفرص
- التعامل باحترام وانصاف
- التمتع بفرص متكافئة في الاستقلال المالي والعمل
أخيرا، كيف نبدأ في بناء نظام قيَم جديد؟
عندما تتفاقم المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع صعوبة إيجاد حلول جذرية نظرا لتفاوت نظم القيم المختلفة بين الطوائف، يصبح من الضروري اللجوء الى المبادئ العامة للحريات والعدالة.
من هنا، تأتي الحاجة الى انشاء نظام قيَم يقوم على الانصاف والعدالة الاجتماعية والمساواة في الممارسة وليس كتابيّا او شفهيّا. ويمكن البدء من العائلة وفورا لأنها تخضع مباشرة للإرادة الفردية لأصحاب القرار على حساب القانون، ربما ننجح في المساهمة في نقل المجتمع من حالته الاهليّة الى حالته المدنيّة عبر تنمية الإحساس بالمواطنة فينا قبل ممارستها بالفعل.
ألقيت هذه المحاضرة بتاريخ 28 حزيران 2023 في باريس من سلسلة حوارات قامت بها جمعية النهضة