يظهر المشهد العام للثقافة والمثقفين إزاء القضايا العربية في فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها، أو إزاء القضايا العالمية في فنزويلا أو العملية العسكرية الروسية ضد المحمية النازية الأطلسية في أوكرانيا، أن أقساما من المثقفين تتراوح مواقفهم بين العدمية والرخاوة السياسية وبين تأجير أقلامهم للسفارات الأطلسية والنفط السياسي على غرار الغلمانية الشعرية أيام السلاطين.
ولم يكن ذلك مفاجئا، بل أن العديد من المفكرين حاول إنقاذ سمعة المثقف وإحالته إلى الوجدان، سواء كان وجدانا فرعيا أو جميعا على غرار غرامشي في تمييزه بين المثقف التقليدي والعضوي، كما على غرار المتصوفة الكبار الذين تعرفوا على العقل محطة على طريق الحدوس العرفانية والإنسانية الخالصة.
لكن ما شهدته العقود الأخيرة في كل مكان يؤشر على أن دورة فساد دموية تضرب شرايين المثقفين، إلا ما ندر، أمثال ناجي العلي وغالب هلسه وخليل حاوي وجوزيف حرب وزياد الرحباني وأنطون سعادة والياس مرقص، فيما كشفت ظاهرة المنشقين الروس أيام الاتحاد السوفييتي وما ورد في كتاب (من يدفع للزمار)، أن بيت المثقفين أوهن من بيت العنكبوت وأكثر هشاشة، ومن ذلك الغلمانية الثقافية الحديثة.
فعلى عكس عالم الحرملك والخصيان من الغلمان عند سلاطين آل عثمان، ارتبطت ظاهرة الغلمان المشرقية بعوالم الدرهمة والتكسب من حفظ الشعر وقوله، وكان الغلمان ينافسون المغنيات والندامى في مجالس الأدب والطرب، ولكل أجر وثواب.
وحسب الأغاني للأصفهاني فلم يكن كل غلمان السلاطين المشرقيين من الخصيان كما هو حالهم في الدولة السنية العلية (العثمانية) ولكنهم لم يكونوا ليمانعون أبداً في تزجية الوقت والإمتاع والمؤانسة.
وكما برزت من عالم السراري والجواري نساء وسلطانات يشار لهن بالبنان، فإن العديد من الغلمان صاروا وزراء ومستشارين كباراً لسلاطين الشرق، مما يؤشر على أن العناية بالأدب والفكر والفلسفة احتلت مكانة مرموقة في ذلك الزمان وكانت الأعطيات والهبات لا تقل أبداً عن حنفيات الدولارات والنفط والغاز هذه الأيام.
ولهذه الملاحظة قيمتها أو خصوصيتها المشرقية رداً على الذين يحيلون مثقفي وشعراء وفلاسفة النفط والغاز على الأخوة اليهود الثلاث وأحفادهم في الأكاديمية السويدية المعروفة بأكاديمية نوبل للجوائز.
فقبل جوائز النفط والديناميت التي تمنح في حقول مختلفة أشهرها الأدب، كانت ثلاثين من الصفة السلطانية تلمع بين أصابع الغلمان الأدباء في بارق ثهمد.
وها هي الغلمانية الثقافية المحدثة تلمع من جديد بين النفط والغاز، بين سلاطين العصر ودهاليز الكنيست السرية ومندوبها السامي بين المحيط والخليج.
على شكل مراكز وصحف ومواقع وفضائيات (عربية عبرية) كما صحف إبراهيم وموسى وكما ابن ميمون الجديد يهرف بالقومية والناصرية وهو ابن اللفائف والتلمود.
وليس لأحد أن يتأسف على شاعر أو كاتب أو ناشط أخذته رائحة الكبريت والدولارات، فلا جديد أو مفاجئ في تاريخ الغلمنة والغلمان الذين فعلوا ما لم يفعله وعجز عنه الخيميائيون، وحولوا الثقافة والأدب إلى صرّات من ذهب.
المثقف الذي يعول عليه
من نصوص ابن عربي العميقة البديعة قوله:” كل معرفة لا تتنوع تنوع الأنفاس والذائقة والطبائع، لا يعوّل عليها، وكل مشهد لايربك الكثرة في العين الواحدة، لا يعوّل عليه”.
وحسب النفري فإن ما يعوّل عليه هو الحركة والإبحار الذي لا يهدأ، واتساع الرؤية كلما ضاقت العبارة. ولا أحد تشغله هذه الأسئلة الى أن يعوّل عليها وعليه، مثلما المثقف، والناقد، والسارد، والفنان، يرمون ظلهم على الماء، حجرا حجراً في البحيرة الراكدة.
ولا جهة في الأنحاء مثل هذه الدارات، دارة دارة، الكلمات وأسرار الجسد على الخشبات، وأصوات شجاعة:
أولاً، ضد المثقف والفنان الذي يصدق مزهواً بالتهريف، أن العمل الأدبي أو الفني سيد الخواتم وقائم بذاته، ومغلق على نفسه من أي وسواس رجيم.
ثانياً، ضد مثقف العقل المستقيل والفسطاط الوحيد، وما عداه المروق على الفرقة الناجية والصراط المستقيم.
ثالثا، ضد مثقف وفنان الكانتونات والأنوات الناقصة المتقطعة من لحم الأمة، يا وحدنا، ولم يدرك مسامعه ووجدانه صدى فيختة:
الهويات والثقافات الصغيرة والعابرون في التاريخ أعجز من أن يديروا العجلات الكبيرة خطوة واحدة.
فالصغائر هي الصغائر من النصوص الى الايقاعات الى الهويات الكيانية المريضة.
رابعا، ضد المثقف والفنان المأخوذ بأجراس الشيطان وغرانيقه العلى المزعومة، أعشاب سامة، من وراء البحار الى قلب الظلام كما لاحظ ادوارد سعيد.
خامسا، ضد المثقف والفنان المنفوش مثل ديك غوغول، الذي استيقظ متأخرا ذات صباح، فاكتشف أن الشمس قد أشرقت ودارت الأرض دورتها قبل أن يفرك عينيه ويشرب قهوته الباردة.
وسادسا، ضد المثقف والفنان المجاني الذي يسيل لعابه على عشب في اليوم العاشر، كما فضحه زكريا تامر، وأما على اجراس بلهاء مثل أجراس بافلوف.
وسابعا، ضد المثقف والفنان المهزوم أيا كانت مبررات قلقه، أيا كانت نهاياته: وليمة لأعشاب البحر بين العراق والجزائر، أو في اقاصي الرمال، أو في قرية منسية بعد موسم طويل لمصطفى سعيد في الشمال.
ثامنا، ضد المثقف والفنان المتناثر، المتطاير مثل زبد لا يدوم. وتاسعا، ضد مثقف وفنان الأمكنة الفاسدة، وبالأحرى فساد الأمكنة، فالبراري لغة الذئاب والعصاة المنذورين للقتال.
وفي كل ما سبق، فإن ما يعوّل عليه هو قرع الجدران في كل مطلاع، وتحت كل شمس، وفي مواجهة كل أبي الخيزران، هكذا تقرع مدارات الروح، جدرانها، ولا تسمح للهواء أن يوشك على الوجوم، ولا للعدو أن يلوث شرفاتها، تارة بالنصوص والإيقاعات العليلة، وتارة بالهويات القاتلة.