العروبة كقوّة إذاعية للمطامع السياسية الفردية.

“… إنّ الدولَ الاستعمارية لم تقاوم فكرة الوحدة العربية الوهمية الدينية الأساس، بل شجّعتها؛ والدولتان “المنتدبتان” في سورية لم تقاوما الدعوة العروبية بل شجّعتاها، لأنّهما وجدتا فيها عاملًا هامًّا في إحداث الانقسام الداخلي في سورية وإيجاد الأحقاد بين أبناء الأمّة الواحدة والحركات الانفصالية المجزّئة الشعب والبلاد. فمذهب العروبة أو “القومية العربية” عند المحمّديين كان جوابه مذهب “القومية اللبنانية” عند المسيحيين ومذهب الاستقلال الدرزي عند الدروز. وهذا أفضل ما يمكن أن ينتظره الاستعمار الذي انتهز هذه الفرصة ليشجّع جميع الحركات المتضادّة في آنٍ واحد.

لم تهتمّ الدولتان الاستعماريتان في سورية لحركة سياسية مثل اهتمامها لحركة الحزب السوري القومي الاجتماعي، فبينما رجال “«الكتلة الوطنية”، الذين كانوا أحيانًا عروبيين وأحيانًا غير عروبيين، يسرحون ويمرحون ويخطبون عن “الوحدة الكبرى” وتحويل الانتداب إلى معاهدة، وبينما كان يُعطى الدكتور عبد الرحمن شهبندر الحرّية التامّة ليخطب في أحياء دمشق عن العروبة والوطن الديني الممثَّل بالقرآن والدولة العربية الكبرى، كانت السلطة الفرنسية والحكومات المحلّية في لبنان والشام توجّه القوّات العسكرية بالسلاح والعتاد لمنع أيّ تجمهر في بيروت ودمشق لسماع خطاب واحد يلقيه زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولم يقتصر اهتمام السلطة على منع المواطنين في المدن الكبرى من سماع صوت الزعيم، بل تعدّى ذلك إلى الأقضية التي لا يحدث فيها تجمهر كالذي يحدث في المدن. وجميع الذين تتبّعوا حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي يعرفون أمر القوّات الجندية التي وجّهت على طرطوس وعلى عمّاطور الشوف وعلى بكفيّا المتن التي جرت فيها مناوشة بين القوميين الاجتماعيين والجند وسقط فيها عدد من الجرحى.

لم تحكم المحاكم الفرنسية العسكرية على رجال “عصبة العمل القومي” التي شعارُها “العروبة” وسعُيها للإمبراطورية العربية، ولم تُصدر أيَّ حكم كالذي أصدرته على زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي ومعاونيه في إدارة الحركة القومية الاجتماعية على أحد من رجال السياسة السورية. أمّا الأحكام التي صدرت بحقّ عدد من الأشخاص في دمشق فعائدةٌ إلى وجود محاولة اغتيال ضدّ رئيس مجلس المديرين وليس إلى مسؤولية حركة قومية منظمَّة. أمّا رجال “العروبة” فقد كانت السلطة تشجّعهم وتطلق لهم الحرّية طالما عملهُم يتعلّق بأساس فكرتهم، أي جمع كلمة الأمم والشعوب العربية، ولا يتحوَّل إلى عمل مختصّ بالشعب السوري.

لماذا لاحقت السلطتان الانتدابيتان حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي هذه الملاحقة الشديدة منذ اكتشفتا أمره؟ ولماذا تخافان من خطب الزعيم ولا تخشيان خطب “العروبيين” حتّى إنّها أطلقت الحرّية لجميع السياسيين، الذين عادوا بعد إبعادهم، بالخطابة في الجوامع والساحات العمومية، ولم تمنع أحدًا يريد التكلّم عن “الوحدة العربية” والدعوة إليها؟.

الجواب واضح: لأنّ خطب الزعيم قائمة على قضيّة صحيحة يمكن بها توحيد الشعب السوري وإطلاق قوّة الشباب السوري من عقالها، أمّا خطب جميع السياسيين الآخرين فهي تُحدثُ الانقسام الديني في الداخل وتحاول جمع المستحيل في الخارج.

إنّ القضيّة التي يحملها الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قضيّةُ أمّة موجودة بالقوّة على أساس النواميس الاجتماعية، أخرجها الحزب السوري القومي الاجتماعي من حيّز القوّة إلى حيّز الفعل بمبادئه القومية الاجتماعية الصحيحة التي أزالت كلّ سبب من أسباب التفرقة ضمن الشعب السوري.

الحركة القومية الاجتماعية لم تنشأ حركة ملّية محمّدية أو مسيحية أو درزية تحاولُ الظهور بمظهرٍ شبه قومي، بل نشأت حركة قومية جامعة، دخلت فيها منذ بدء تكوينها عناصرُ من جميع ملل البلاد، فكان فيها اليسوعي وكان فيها المحمّدي وكان فيها الدرزي. وكونها حركة ولَّدها فردٌ وجَّه دعوته إلى جميع أبناء أمّته بلا فارقٍ مذهبي أزال عنها كلّ صفة تكتّلية ملّية وأوجد الضمان لعدم نشوء تكتّلات ملّية في داخلها.

في الحركة القومية الاجتماعية لا يقول السوريون القوميون الاجتماعيون من الملّة المحمّدية بإنشاء دولة دينية على أساس “الجنسية الدينية” التي يقول بها الرجعيون، يعيش فيها أبناء الملل الأخرى تحت كنف أبناء الملّة المحمّدية ورحمتهم وحمايتهم، ولا يقول السوريون القوميون الاجتماعيون من الملّة المسيحية أو الدرزية بإنشاء دولة دينية مسيحية أو درزية بالاتّفاق مع دول أجنبية مسيحية يعيش المحمّديون في كنفها تحت رحمة المسيحيين وحمايتهم. كلاّ: لا شيء من ذلك. إنّ جميع السوريين القوميين الاجتماعيين يؤمنون بأنّهم أبناء أمّة واحدة هي الأمّة السورية، تجمعهم عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وارادة واحدة. فهم جميعُهم يريدون الجميعَ أحرارًا متساوين في الحقوق والواجبات، ويرفضون أن يكون بعضُ الأمّة عبدًا لبعضٍ أو عالة على بعض أو تحت رحمة تساهُلِ بعض. إنّهم يخجلون من أن يروا أحدًا من أبناء أمّتهم غير حرٍّ متمتّعٍ بجميع الحقوق المدنية والسياسية التي لهم في الدولة.

إنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي يقول إنّه يجب أن يكون لكلّ فرد من أفراد الأمّة السورية الحقُّ والحرّية ليعتقد في الشؤون المتعلّقة بما وراء المادّة، كالله والسماء والجحيم والخلود والفناء، كما يريد. ولا يُطلبُ منه إلّا أن يكون قوميًّا اجتماعيًّا صحيحًا مخلصًا لأمّته ووطنه. ولكنّنا نرى هنا أن نقول بصورة خصوصية لا دخل للحزب فيها إنّه من المستحسن أن يَعُدَّ المسيحيون المدنيون أو العلمانيون، إذا لم يشأ الإكليروس، محمًّدًا رسولاً إلهيًّا ودينه صحيحًا ليشعر المحمّديون بأنَّ المسيحيين لا يكفّرونهم في دينهم ولا يحطّون من قدر نبيّهم، كما أنّه يحسن أن يَعُدّ المحمّديون دين اليسوعيين صحيحًا وأن يتركوا التأويلات التي تكفّرهم.إنّ السوريين القوميين الاجتماعيين يحترمون معتقداتِ بعضهم بعضًا، ولا يخطر في بال أحد مدركٍ منهم أن يسفّه مذهب غيره الديني، ولكن ما ارتأيناه هنا هو شيء عامّ لا يخرج منه اللّاقوميون اجتماعيون. يجب علينا أن ننهض كأمّة حيّة وأن نُزيل من طريقنا جميع الصعوبات التي تعرقل أو تمنعُ نهوضنا. وأهمُّ ما يجب أن نُزيله من الصعوبات صعوبةُ الفتنة الدينية وصعوبةُ الفتنة الاجتماعية – الاقتصادية. وإزالتُهما تكون باعتناق مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الموحِّدة، لا بمحاربة هذه المبادئ المقدّسة كما يفعل الجهّال الخالون من المسؤولية.

أنطون سعاده، “الإسلام في رسالتيه المسيحيّة والمحمّديّة” “الركن للطباعة والنشر” الطبعة الخامسة، 1995، بيروت