قد يصوّر البعض حضور الرئيس بشار الاسد إلى القمة العربية في جدّة خطوة سياسية بمثابة عملية التبادل المصلحي، ويضعها البعض الآخر في خانة تبدّل الظروف على مستوى المنطقة، أمّا الحقيقة فهي في مكان آخر. فالرئيس السوري بشار الأسد لم يُدع إلى القمّة سوى لأنّه بعد سنوات من الحرب خرج صامدًا ومتجاوزًا ومسامحًا ومغيّرًا للظروف التي سعى البعض لفرضها عشية 11 آذار 2011، تمامًا كما كان والده صبورًا يقرأ في الاستراتيجيا، يدرس خطواته، يحسن رسم التفاصيل، ويتطلّع نحو المصلحة العامة.
فالعرب هم من عادوا مصلحيًا إلى القوي، إلى الذي لا يمكن الرهان سوى على الانتصار معه، لا على الهزيمة في مواجهته.
سلسلة نقاط تشكّل حقيقة الانجاز السياسي الذي حققه الأسد، والذي لم يكن يراد من الحرب على سورية سوى عكسه تمامًا. هذا الإنجاز ألزم العرب، نتيجة واقع فرضته القيادة ومعها الجيش والشعب السوري والحلفاء، على إعادة تحديد أولويّاتهم، وهي الانتقال نحو تعزيز اقتصادات المنطقة انطلاقًا من ترسيخ فكرة التحالف مع المشرق من جهة، والتوجّه شرقًا من جهة مكمّلة.
عدم الانصياع لخيار التطبيع:
تُقر مراكز الدراسات في كيان الاحتلال أن سقوط الدولة في الشام كان سيؤدي بشكل حتمي بمختلف دول المنطقة إلى توقيع اتفاقيات على غرار ما فعلت الإمارات، ولكن صمود الدولة في الشام كان كفيلًا بتغيير هذا السيناريو، وإعادة تثبيت ضرورة تعاون العرب مع صنّاع خيار المواجهة في المنطقة ورعاته، انطلاقًا من أنّ اقتصادات المنطقة يجب أن تقوم على القوة لا على الضعف، والقوة في مفهوم مواجهة العدو هو القوة على مختلف الصعد، وليس الاستقواء بقواعد عسكرية تتحوّل إلى أدوات ابتزاز متى تدعو الحاجة دولها.
فبعض الإعلام في لبنان، من أولئك الذين يتلقون تمويلًا مشبوهًا، روّجوا كثيرًا لفكرة أنّ إعادة مقعد الدولة السورية للجامعة العربية هو مقدمة لسير السوريين بخيار التطبيع. لم يخل لهؤلاء أنّ من بعض من ساهم في تمويلهم هو الذي تراجع عن التطبيق، وسلك سكة الشرق خيارًا لتقوية ورقته على الصعيد الدولي.
عدم التخلي عن دعم المقاومة:
النقطة الثانية التي ركّز عليها دعاة الهزيمة، هي تخلّي الرئيس الأسد عن المقاومة في المنطقة، وتجفيف الدعم لها، ومنع تواجدها في الشام، ومنع انطلاقها في عملية نقل السلاح من الشام وعبرها. اليوم يتواجد الرئيس في جدة بعد أيّام على قصف الجهاد، بما يمثل، للمستطونات المعادية بشكل متواصل وبسلاح تلقّوا التدريب على تصنيعه ربّما، في مصانع سورية.
وحدة الساحات:
راهن كثر أن تساهم الشام عبر مركزيتها في الصراع على تفكيك فكرة وحدة الساحات، كون وحدة الساحات لا يمكن أن تتطبّق من العراق إلى لبنان ففلسطين دون المرور بالشام، وتراجع الشام هو تراجع للمشروع، ولكن الأسد بسلسلة مواقف وأفعال أكّد على العكس، ونزع فكرة التراجع المبدئي مقابل الكسب السياسي من اللاوعي السياسي العربي، فالكسب في القاموس السوري هو الكسب الحلال، لا المساومة المتآمرة على الأرض والشعب.
أثبتت السياسة السورية في العقد الأخير أن سورية ليس كما قال كارتر أنها حاملة طائرات السياسة الدولية، بل هي حاملة طائرات تصب في فلسطين، والأسد اليوم في قمة ستعود إلى فلسطين ولو بعد حين، في بيانها الختامي وفي حضوره هو فيها، فالأسد لا يمثل الشام، بل حين يجلس على مقعده يتحدث باسم انتصار تموز 2006، وانتصارات غزة المتتالية، وانتصارات الشام، ويتحدث ايضًا باسم التحوّل النوعي الذي أحدثه أهل الضفة في الصراع مع العدو. تواجد الأسد في جدّة ليس سوى حضور سياسي في قمة سياسية، بل هو تكريس لفكرة أن دماء السوريين هي من ترسم الخطوط السياسية العامة، وليس أي شيء آخر.
ولأنّ الأسد كان في القمة، دُعي إلى القمّة.