كثيرًا ما نسمع عبارة “لماذا نحبّ من لا يحبّنا؟”،نسمعها من المراهقين والراشدين، من الإناث والذكور، فتراهم غالبًا ما ينغمسون في علاقات أشبه بالحبّ من طرف واحد، معرضين عمّن يحبّهم ويقدّم كلّ ما يستطيع للتقرّب منهم، ساعين بمنتهى الإصرار والتصميم لكسب محبّة واهتمام من لا يحبّ ويهتمّ.لتفسير هذه الحالة علينا الإحاطة بأسباب عديدة ومختلفة بحسب اختلاف الشخص وفردانيته وتكوينه النفسي وخبراته الماضية وتأثيرها النفسي الذي يؤدّي به إلى خوض هكذا تجربة عاطفية أقلّ ما يقال عنها أنّها سامّة ومؤذية.
من ناحية التحليل النفسي يعود السبب في حالات كثيرة إلى طفولة تتصف بالحرمان العاطفي والتقدير من قبل الأهل، بل إلى علاقة معهم قد تخلّلها تعنيف وإهانات وشعور الطفل أنّه دون قيمة وغير مرئي. فينشأ شخصًا معتادًا على الإهمال والتجاهل، فهي معايير مألوفة لديه، ويميل للاعتقاد بأنّه شخص غير كافٍ أو غير جيّد كفاية أو غير ذكي كفاية فيختار الأشخاص الذين يلعبون بشكل مباشر على حالة انعدام الأمن هذه، (وهذا الشعور أيضًا قد يكون نتيجة علاقات سامة سابقة).
هذه الطفولة بطبيعة الحال تولّد جفافًا عاطفيًا وحاجة ملحّة لوجود مصدر للاهتمام والأمان، خاصّة في سن المراهقة، فيتعلّق الشخص بأوّل إنسان يشعر أنّه قد يملأ هذا الفراغ دون تفكير عقلاني أو رؤية واضحة عن هذا الشخص الذي قد يصل حدّ الحاجة لوجوده إلى غشّ الذات ورسم صورة خيالية عن الشخص وصفاته التي قد لا يملك أيّ منها. فالإنسان المحتاج للعاطفة قد يغرم بوهم صورة قد رسمها بمخيّلته بعيدة كلّ البعد عن الإنسان الذي تعلّق به وأحبّه في الواقع.
أحيانًا كثيرة يكون سبب الحبّ والتعلّق بشخص لا يبادل الشعور هو محاولة لإثبات قيمة الذات لا أكثر، فيحاول الشخص ممارسة لعبة التقارب والإغواء بهدف الفوز بالشريك والشعور بالقيمة الذاتية وإثبات جاذبيته، وهذا الشعور عادة ما ينتج عن تقدير ذات منخفض في الحقيقة. بالإضافة إلى ميل الإنسان وانجذابه للأمور الصعبة والشاقّة وخاصة فيما يتعلّق بالعاطفيات، فهو يحبّ أن يرهق نفسه حتّى يحسّ بالارتياح وهذا من أسباب الإعراض عمّن يحبّه فهو مضمون بالنسبة له، فتراه يعدّ الخطط وبنصب الشباك لاصطياد الشخص الذي يحبّ أن يلفت نظره ويعلّقه به ويجعله يحبّه.
هذا وهناك فئة كبيرة ممّن يعشقون دور الضحيّة ويعشقون أن يعانوا من مشاكل يشكون عنها طوال الوقت كي يصبحوا محطّ اهتمام المحيطين بهم.بالإضافة إلى البعض (خاصّة النساء) الذين يحبّون دور “المنقذ” في العلاقة العاطفيّة، ممّا يجعلهم ينجذبون للأشخاص الخطأ ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون تغييرهم لأشخاص مناسبين لهم في نهاية الحال.
وكذلك فإنّ الخوف من الوحدة قد يكون عاملًا مهمًّا لبعض النساء في استمرارهنّ بعلاقات غير جيّدة فقط لأنّهن يخفن من احتمال أن يعشن وحيدات، فالارتباط برجل سيّئ بالنسبة لهنّ هو أفضل من عدم الارتباط مطلقًا.ذكرنا أهمّ العوامل المؤدّية للدخول بعلاقة بمشاعر غير متبادلة والتي يُدفع ثمنها من صحة الإنسان النفسيّة، من سعادته، من ثقته بنفسه، ومن تضييع فرص لعلاقات يمكن أن تكون حبًّا حقيقيًّا. أمّا الابتعاد عن هكذا علاقة والتخلّص من مشاعر التعلّق ليست مستحيلة، وتختلف طريقة التعامل معها من شخص لآخر. منهم من يستعين بالبكاء والسهر والأغاني الرومنسيّة الحزينة ومنهم من يعودون للتوسّل لمن رفضهم أو تهديده أو التحرّش به أو الانتقام منه. فالرجال عندما يخسرون عادةً حبّهم يميلون إلى الكحول والمخدّرات والقيادة المتهوّرة أكثر ممّا يتحدّثون عن مشاعرهم. أمّا النساء فيعانين من البكاء والنوم لفترات طويلة أو عدم النوم على الإطلاق والانسحاب الاجتماعي ومشكلات الذاكرة وانعدام الطاقة.
في هذه الحالة ينصح بالخطوات التالية:
– عدم تجاهل مشاعرنا السلبيّة: رغم الغضب والرغبة في تجاوز الألم سريعًا فإنّ تجاهل الألم لن يفيد، فيقتضي الاعتراف بالحزن والألم والتعبير عنهما منعًا للانهيار لاحقًا.
– عدم اعتزال الناس: فكرة الرفض تساهم بفقدان الثقة والشعور بعدم الاستحقاق، فمن المهمّ مقاومة الرغبة في اعتزال الأصدقاء ولقائهم والخروج معهم. فتفريغ مشاعر الحزن والألم للمقرّبين والبكاء على كتفهم يساهم بالارتياح والتخطّي.
– التّقبّل للرفض: ليس من الضروري والواجب أن يرغب بنا من نرغب به، كما نحن لا نرغب بالضرورة بمن يرغب بنا. ففكرة الرفض ليست مهينة ولا تقلّل من الشأن: ببساطة شخصين غير مناسبين لبعضهما البعض.
– طلب المساعدة في حال الحاجة: فالحزن والاحباط قد ينقلبان إلى اكتئاب حقيقي يهدّد الصحّة البدنيّة والنفسيّة. فإذا أثّر هذا الحزن العميق على روتين الحياة اليومي يجب اللجوء إلى أخصائي نفسي لطلب الدعم في تلك الفترة منعًا للإصابة باكتئاب حادّ.
– الانتباه للنمطيّة: ففي حال تكرار المرور بتجربة حبّ غير متبادل لأكثر من مرّة، والتعرّض للخذلان والرفض من شركاء مختلفين وتقديم التضحيات والمحاولات، هنا يظهر نمطًا متكرّرًا يحتاج للجوء لاستشارة نفسيّة لاكتشاف الأسباب وحلّها، تجنّبًا للوقوع ضحيّة علاقات مماثلة.
– عدم التعقّب والتحرّش: الرفض شعور قاسٍ قد يسبّب مشاعر غير محتملة تدفع بالشخص لملاحقة محبوبه والتمسّك بالمحاولة مرة ثانية وعاشرة، ويطارد محبوبه لإقناعه بحبّه والتّأثير على قراره. كلّ هذا يدخل في نطاق التحرّش والتعقّب المرفوضين اجتماعيًّا وحتّى قانونيًّا. وقد يلجأ البعض للتعامل بعنف مع حبيب سابق واللجوء إلى سلوكيات جرميّة.
قد يخلّف الحرمان العاطفي مستقبلًا عاطفيًا أسودًا للأفراد، يدفعهم نحو تعكير حياتهم وحياة من لا ذنب لهم، ومن هنا يكون التشخيص السليم للعلاقات، لدى معالج نفسي أو بشكل ذاتي من خلال التحدّث مع الذات، هو الخيار الأنسب لعدم الوقوع بمطبّات “الهيام” بمن لا يبادلنا المشاعر نفسها، وبها يتجنّب الانسان معاناة قد لا تنتهي الا بانتهاء سنينه.
ريما كسر – أخصّائية ومعالجة نفسيّة