“ربيع وادي النيل”..تداعيات استراتيجية

عندما يحصل التفكك في المجتمعات، تحت أي شكل أو غاية، يصبح استيطان فيروسات الإنهيار أمرًا محتمًا، وبالتالي يكون تاريخ هذا المجتمع منذ تفكك وإلى آخر يوم من وجوده، هو تاريخ فعل هذه الفيروسات وانتصاراتها.

وادي النيل:

        ذاك المدى المتكامل طبيعيًا، سواء لجهة العنص البشري، أم لجهة المعطيات الإقتصادية، أم لجهة المساحة الجغرافية، أم لجهة الموقع الإستراتيجي. وادي االنيل هذا، وعى مدى سبعين عامًا، لم يشهد قيام سياسة استراتيجية في دولتي (مصر والسودان) تستند إلى معطياته الإستراتيجية العائدة إليه، والتي تخوله أن يكون سلة غذاء العرب أجمعين، إضافة إلى أن يكون القوة الإستراتيجية العسكرية والإقتصادية التي تجعل من الوادي القوة الرئيسية المؤثرة في كامل القارة الأفريقية، إضافة إلى دوره الوازن في الصراع مع الصهيونية في فلسطين وخارج فلسطين، والذي يساهم بشكل أساسي في هزيمة المشروع الصهيوني.

لاشك أن وراء كلّ فريق من فريقي النزاع في السودان اليوم جهات ذات مصالح متشابكة ومعقدة، هي التي تدفع باتجاه زيادة الفكفكة في الجسد السوداني ليسهل عليها وضع اليد على مقدرات هذا البلد.

إنتكاسات استراتيجية في تاريخ وادي النيل:

أولاً: عندما وقعت الثورة المصرية في 23 يوليو 1952، كان الوادي موحدًا، وكان الملك فاروق هو ملك مصر والسودان.

عام 1954 جرت مفاوضات بين قيادة الثورة المصرية والمسؤولين السودانيين حول مصير السودان في ظل حكم الضباط الأحرار، ولكن مع الأسف لم تؤدِ هذه المفاوضات إلى بقاء الوادي موحدًا (الأسباب عديدة لا مجال لذكرها) وبالتالي جرى ترسيم الحدود وانشق الوادي إلى دولتين مصر والسودان.

كان هذا الحدث هو الإنتكاسة الإستراتيجية الأولى للوادي، والتي أسست بكل هذه التداعيات والتي ستستمر حتى تأتي اللحظة التاريخية التي نشهد فيها عودة الدولتين لحالة الوحدة التي سبقت عام 1954.

ثانيًا: إنفصال جنوب السودان، وبالتالي يكون أول عارض قاتل من عوارض الإنتكاسة الأولى قد ظهر، ليس فقط في ما يتعلق بالجانب السياسي (الإنشقاق) بل في موضوع الأمن المائي والغذائي (الحياتي) الذي يعود لكلتي الدولتين مصر والسودان. سيما وأن “إسرائيل” تتمتع في دولة جنوب السودان بميزات أساسية تؤهلها لأن توجه الدولة (الجنوب سودانية) باتجاه مصالحها هي (أي اسرائيل)، فمنذ قيام هذه الدولة بتاريخ 9 يوليو 2011، أصبح السودان الشمالي محاذيًا للحظر الإسرائيلي.

ثالثًا: بناء سد النهضة الأثيوبي

لم يكن بناء سد النهضة الأثيوبي يندرج في سياق طبيعي معتاد، بل جاء بتحريض اسرائيلي و مساعدة اسرائيلية، يأتيان في سياق استراتيجية يمكن أن نسميها “الخنق بحبل الماء” (مقالة لنا نشرت في جريدة الديار بتاريخ 29 تموز 1997)، والحقيقة أن بناء السد وما يحمل من مخاطر استراتيجية هو إعلان حرب على دولتي الوادي مؤجل التنفيذ.

لقد ظهرت إشارت هذا الخطر باختراع المتمرد جون غارنغ من قبل أجهزة الإستخبارات الأجنبية في تسعينيات القرن الماضي، والذي استطاع بمعاونة “إسرائيل” والغرب عمومًا من شق جنوب السودان عن الأرض السودانية وإقامة دولة مستقلة عليه، كما أن هذا الخطر قد ظهر من جديد على الهضبة الأثيوبية ببناء سد “النهضة” الذي يعادل بخطره الإستراتيجي خطر احتلال مصر والسودان!

        لقد كتبنا في مقالة لنا بتاريخ 17.01.1997 في جريدة الديار عقب هجوم المنشق جون غرانغ على شرق السودان مقترحين التالي:

“نعتقد أن على الخرطوم والقاهرة إتخاذ الخطوات التالية:

  1. إعتبار ما حدث في شرق السودان حاليًا وفي جنوبه سابقًا حالة اعتداء على الأمن القومي في وادي النيل برمته.
  2. ضرورة تجاوز الخلافات والتناقضات القائمة بين النظامين في كل من القاهرة والخرطوم، ووضع استراتيجية مشتركة مختصة بوادي النيل لمواجهة اليهودي المقنع.
  3. تشكيل قوة تدخل سريع مصرية-سودانية فورًا، تكون مهمتها استعادة الأرض السودانية المحتلة من قبل العميل العتيق غرانغ، وفرض دور للسياسة المصرية- السودانية المشتركة على المسرح الإفريقي، على اعتبار أنها سياسة استراتيجية واحدة غير قابلة للإنفكاك.

أما إذا جرى التعامل بالمستوى التكتيكي والجزئي مع مسألة الإحتلال، فإن وضعًا دراميًا مفجعًا سينتظر القاهرة والخرطوم معًا. وضع يتمثل في خيارين كلاهما مر:

  • إما أن تُجَرْ مياة النيل من الدلتا إلى النقب (مشروع مياه زمزم –كما أسماها السادات- كانون الثاني 1979 والقاضي يتوصيل 150 مليون مكعب من مياه النيل إلى صحراء النقب (توقف العمل بهذا المشروع بعد اغتيال السادات).
  • ب‌-  وإما أن تُمنع هذه المياه من الجريان باتجاه السودان ومصر (كما هو حاصل الآن في دجلة والفرات).”

       لقد قدمنا هذا العرض لأننا نعتبره الخلفية الأساسية التي تتحكم بكل مفاصل أزمات السودان ومصر، السياسية منها  والإقتصادية.

إن ما يحصل اليوم في السودان هو ارتباط أحد رموز النظام السوداني (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، بقوى خارجية عربية وغير عربية، في استخراج الذهب ومحتويات المناجم في جنوب السودان، إضافة إلى توظيفه في عميلة زعزعة أمن الدولة السودانية، التي تعد مقدمة لزعزعة الدولة المصرية.

الدولة التي لا تستطيع الآن التدخل لقمع هذه المؤامرة وفي الوقت عينه لا تستطيع تحمل تنائجها.

كما وأن القطب الأول في المعادلة السودانية عبد الفتاح البرهان، والذي خضع للضغوط الأميركية وفتح قنوات وأقام تفاهمات مع “اسرائيل” الامر الذي عمق الشرخ أكثر في النسيج السوداني-السوداني.

منذ تمرد غرانغ ذي الخلفية الصهيونية كان ينبغي أن يكون الوجود المصري أكثر شمولية  ليكون قادرًا على حماية الأمن القومي لوادي النيل برمته. وهو الأمر الذي لم يحصل، والذي سهّل عملية الضغط على عمر البشير في موضوع العقوبات ومذكرة التوقيف بحقه مما أجبره على القبول بانفصال جنوب السودان، فلو كان السودان محصنًا بالقوة المصرية والعربية الكاملة لإختلف الأمر.

       أما في التفصيل فإننا نميل إلى الإعتقاد بان اشتباكًا معقدًا من المصالح العائدة إلى عدة دول في الإقليم والعالم، تقف خلف هذا الإنقلاب. وحتى نكون على بينة ووضوح من طبيعة الوضع القائم وتداعياته لابد من ذكر بعض الوقائع الأساسية التي تلقي الضوء على هذا الإشتباك المصلحي.

في عرض الوقائع:

  • في نوفمبر 2019 قام الرئيس عمر البشير بزيارة لروسيا، وقد طلب من الرئيس بوتين إقامة قاعدة عسكرية لروسيا على الأرض السودانية على البحر الأحمر، حماية لبلاده من التهديدات الأميركية.
  • أعلنت الولايات المتحدة الأميركية بإسمها وبإسم الغرب أنهم لا يرغبون بهذا التواجد العسكري الروسي بشكل محدد، وهو ما يزعج الولايات المتحدة الأميركية.
  • وقع البشير على الإتفاقية المشار إليها والمتعلقة بالقاعدة العسكرية (فلامينجو).
  • وقع بوتين على الإتفاقية بتاريخ 16 شباط 2020.
  • بتاريخ 6 شباط 2023، زار لافرورف وزير الخاجية الروسي الخرطوم، وأكد على نقطتين:
  • إن روسيا والسودان متفقتان على التوجه نحو عالم ديمقراطي متعدد الأقطاب.
  • 2-   إن موسكو تنتظر موافقة الخرطوم بشأن البدء الجاد بالعمل في قادة “فلامينجو” (www.aljazeera.com  25 شباط 2023)

و. كان قد سبق زيارة لافروف إلى الخرطوم زيارة الفريق حميدتي (قائد قوات الدعم السريع) إلى موسكو بتاريخ 23 شباط حتى 3 آذار 2022. وكان موضوعها تعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية بين الطرفين كما تردد كذلك الحديث عن نقل كميات من الذهب السوداني إلى روسيا. (www.nonpost.com  محمد مصطفى جامع 21.04.2023)

        وحتى تتوضح أكثر طبيعة المصالح المتشابكة وأطراف هذه المصالح، من الضروري بمكان عرض موجز لثروات السودان:

  1. يمتلك السودان أكبر احتياطي من اليورانيوم في العالم
  2. يمتلك ثالث أكبر احتياطي في افريقيا من انتاج الذهب والثالث عشر عالميًا
  3. لديه 220 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة
  4. لديه ثروة حيوانية تقدر بأكثر من 150 مليون رأس، ما يمكن أن يؤهله ليكون سلة غذاء العالم

بناء عليه يمكننا أن نوجز الخطوط الرئيسية التي تؤسس لهذا الصراع القائم في السودان:

  1. صراعات داخلية على السلطة مرتكزة إلى المصالح الذاتية والعشائرية والإثنية
  2. ارتباط أقطاب الصراع وبشكل خاص برهان وحميدتي بجهات عربية وأجنبية وإن أحد مظاهرها هو القاعدة العسكرية الروسية
  3. طمع الدول المتعددة بخيرات السودان التي ذكرناها أعلاه
  4. وهو الأهم تحضير الشروط الكافية لتنفيذ “استراتيجية الخنق بحبل الماء” عبر تدمير مرتكزات دولتي وادي النيل مصر والسودان
  5. جنوح عبد الفتاح برهان (رئيس مجلس السيادة السوداني) إلى فتح قنوات للعلاقة مع اسرائيل الأمر الذي عمق الشرخ بين مكونات الشعب السوداني

        إنها مجموعة حبال ممدودة فوق وادي النيل، منها ما كان من الذهب ومنها ما كان من اليورانيوم ومنها ما كان من النفط وأهمها ما كان من الماء…

أما اليهودي فهو يلعب على هذه الحبال جميعًا وسيبقى اللاعب الوحيد فوق هذه الحبال التي قد تبقى منصوبة لآجال طويلة إذا لم يتم تأسيس القوة المصرية-السودانية المشتركة القادرة على لجم هذا الجنون.

                إنه ربيع طويل الأمد.

الأمين نسيب بوضرغم

18.04.23