ما من حقبة عالمية، سياسية واقتصادية واجتماعية، خلت حروبها من الحرب على الجبهة الثقافية التي غالبا ما تسبق إرهاصاتها الأولى التحولات الكبرى.
فثورة كوبرنيكس – غاليليو – كيبلر، ونظريات العقد الاجتماعي والثورات العلمية، وكذلك حركة الإصلاح الديني، هيأت الفضاء العام للثورة البرجوازية الصناعية في أوروبا، كما أدى البعد الاستعماري المتوحش للبرجوازيات الأوروبية إلى انبثاق مقاومة ثقافية قادت إلى الثورة الاشتراكية شرقا والثورات الوطنية والقومية في المستعمرات جنوبا.
على مدار القرن العشرين، لم يتجابه الغرب والشرق على الصعيد السياسي فقط، بل وعلى الصعيد الأيديولوجي، الليبرالية (الحريات السياسية وحريات الأسواق) في الغرب الرأسمالي، مقابل الاشتراكية في الشرق والثقافات الوطنية والقومية في الجنوب.
فيما يخص المشهد المشرقي والعربي، كان من تجليات ذلك الخطاب القومي سواء عند البعث وعبد الناصر أو عند القوميين السوريين ممثلا بفكر سعادة، وكذلك الخطاب الاشتراكي عبر الأحزاب الشيوعية وغيرها.
بعد الانهيار السوفياتي، أطلقت المتروبولات (المراكز الرأسمالية) الأوروبية والأمريكية ما أسمته ملء الفراغ الثقافي أو الحرب على الجبهة الثقافية وأغرقت العالم بمصطلحات ومفاهيم عشوائية أوكلتها إلى جماعات التمويل الأجنبي التي اختطفت مفاهيم المجتمع المدني والحرية والمواطنة وغيرها وأضفت عليها طابعا ليبراليا يناسب التحولات الجديدة للرأسمالية وثقافة ما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم المشوشة (يمكن العودة إلى كتاب من يدفع للزمار لـ سوندرز، والدعارة الأكاديمية لـ كوستلر، والاحتلال المدني لـ عمرو عمار، ومشروع الديموقراطية لـ ديفيد غرايبر).
يشار هنا بالذات إلى ما عرف بتحطيم السرديات الكبرى مثل الدولة القومية والعقل النقدي والهويات الجامعة والإنسان نفسه، لصالح عالم عدمي يستبدل العقل النقدي بالعقل التقني الأدائي ويعزل المعرفة عن بعدها الاجتماعي والأخلاقي وينحط بالإنسان إلى ما يسمى بـ ما بعد الإنسان، حالة تتعايش فيها تداعيات الهندسة الجينية وثقافة الروبوت وكل ما ينحط بالبشر.
وكانت الدعوة إلى تحويل المثلية من حالات فردية بصرف النظر عن الموقف منها، إلى ظواهر اجتماعية سياسية عامة، حتى أنه مقابل الحط من شأن الهويات الاجتماعية والسياسية ومن الرموز التي تعبر عنها مثل الأعلام والرايات، جرت المبالغة في تسويق الهويات المثلية ورمزها الذي اختطف أيضا طيف الألوان الرومانسي المعروف بقوس قزح.
ولعل البعد الأخطر من كل ذلك هو السياق العام المتمثل فيما يمكن وصفه بالموجة الثالثة من الليبرالية، وبضمن ذلك تسويق شكل جديد لها عبر أدوات مختلفة مثل دليل أكسفورد في النظرية السياسية الصادر عن المركز العربي في الدوحة – بيروت.
فإذا كانت الليبرالية الأولى، كما دشنها جون لوك (مزيجا من الحريات سياسية وحريات الأسواق) لحظة التنوير وصعود البرجوازية وتقدميتها قياسا بالإقطاع، وإذا أخذت الليبرالية الثانية شكل الرافعة الأيديولوجية للثورة الصناعية، فإن الليبرالية الثالثة بالتزامن مع الرأسمالية المالية هي ليبرالية الداروينية الاجتماعية الجديدة المتوحشة (غابة الذئاب المنفردة).
مقابل ذلك، وفي سياق الحرب على الجبهة الثقافية، ومع غياب أي إضافات عربية في هذا السياق، قدمت الصين وروسيا نماذج مغايرة للثقافة الغربية، لخصها كتابان هما: “النموذج الصيني” لـ دانيال بيل، و”الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة” للمفكر الروسي الآوراسي ألكسندر دوغين.
تنطلق القراءتان من قيم مناهضة تماما للنمط الغربي عند المتروبولات الرأسمالية، فمقابل ديموقراطية تتحكم بها الأوليغارشيات المالية النافذة، وتدار منذ عقود على شكل ديكتاتورية الحزبين، تقدم الصين نموذجا مختلفا من مستويين: الانتخابات في القاعدة عبر المجالس الشعبية لمختلف القطاعات، والاختيار من الممثلين المنتخبين على قاعدة الجدارة لإدارة الدولة، أما الشكل الروسي المقترح في كتاب دوغين فيدعو لتجاوز الشكل الليبرالي الغربي عبر ديموقراطية شعبية تتحرك في فضاء أوسع للطبقات الشعبية وتستعيد العقلانية واحترام الموروث الثقافي، ولا تسمح بتحول البشر إلى مختبرات للهندسة الجينية باسم الإنسان الجديد أو ما بعد الحداثة.
ويلحظ دوغين أن السمة العامة لليبرالية الغربية الجديدة هي تحويل المجتمع إلى مجموع فردانيات متناثرة لا إلى مجموع علاقات اجتماعية ثقافية إنسانية، مركزا على أهمية الربط الجدلي بين الذوات الإنسانية وبين تشبيكاتها البنوية، كما يدعو النموذجان الروسي والصيني إلى تحويل الآوراسية وطريق الحرير إلى فضاءات لحوار الثقافات ومشاركتها في عالم متعدد الأقطاب، مقابل صراع الحضارات والثقافات الذي أطلقه العقل الإمبريالي، هنتنغتون، ومقابل ماديات وضعية مبتذلة.
د. موفق محادين