نحن الّذين كُتِب علينا أن نحيا في هذا الزّمن، وفي بقعة من الأرض هي الأكثر أهميّة والأكثر اشتعالاً، سنكون، إن بقينا وبقي زمان وأرض، شهودًا على تحوّلات كبرى بكلّ ما تعنيه كلمة تحوّلات من انهيار كيانات وصعود أخرى، والأيّام، بلا شكّ، حُبلى بمتغيّرات لا يمكن لأحد التّنبّؤ بها مهما علا شأنه، ومهما بلغت قدرته على التّحليل واستشراف المستقبل.
وفي خضمّ ما يعيشه العالم من متغيّرات لم تكن متوقّعة، من الحرب في أوكرانيا، إلى تراجع أوروبا، إلى الأزمة السياسيّة في إسرائيل، إلى ما تعيشه الولايات المتحدة من إفلاس لبعض البنوك، إلى الاتّفاق السّعودي- الإيراني برعاية صينيّة.. يبرز اللقاء الرّباعي بين روسيا، وسوريا، وتركيا، وإيران الّذي يبدو أنّه سينعقد في موسكو بعد الانتخابات التّركيّة، فماذا عنه، وما المتوقّع منه؟؟
حسب مصدر روسي رفيع المستوى، المكان في موسكو، واللاعب الأكبر هو فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، أمّا الغاية فهي إنهاء الصّراع السّوري- التّركي بعيدّا عن اليد الأميركيّة، فهل انطلق قطار إنهاء الأحادية القطبيّة في منطقتنا، ليتابع سيره فيما بعد إلى كلّ هذا العالم الّذي تعب فعلاً من هذه الأحادية؟
لا أحد يرى أنّ الأمر سهل، لأنّ أميركا لا تريد، ولا تستطيع أن تسحب وجودها العسكري من سوريا، فهذا الوجود ليس ترَفًا، بل هو ضرورة بالنّسبة إليها، وهو يحقّق لها مجموعة من الأهداف لعلّ أهمّها:
– الحفاظ على موطئ قدم لها في شرق المتوسّط الّذي يُعتَبَر من أهمّ المناطق في العالم.
– ضبط التّقدّم التّركي في المناطق التي تعتبرها تركيا امتدادًا تاريخيًّا لها.
– ضمان أمن إسرائيل.
– منع التّحوّل العربي نحو سوريا.
– مواجهة الوجود العسكري الرّوسي في سوريا.
– احتواء المحور الإيراني- العراقي- السّوري- اللبناني، كونه يملك مشروعه الخاصّ الّذي يتناقض مع المشروع الأميركي للمنطقة.
لكلّ هذه الأسباب ولأسباب كثيرة أخرى، لا يمكن للولايات المتّحدة، كما أسلفنا، أن تترك سوريا للاعبين آخرين، هي تستطيع أن تعرقل لكنّها لا تستطيع أن تمنع، وبالتّالي فإنّ هذا اللقاء سيتمّ في موسكو وستكون له بالتّأكيد نتائج على الأرض، ولن ننتظر طويلاً لنختبر إرهاصاته.
سيكون الاتّفاق السّوري- التّركي فرصة كبيرة لسوريا كي تلتقط أنفاسها بعدما عانته من حرب أكلت الأخضر واليابس، ومن الحصار الأقتصادي الّذي يحاول أن يأتي على ما تبقّى منها، ومن الزّلزال الّذي ترك آثارًا مدمّرة في بيئة مدمّرة أصلاً، كلّ ذلك صحيح، لكنّ الصّحيح أيضًا أن سوريا صمدت وأنّ من حقّها أن تقطف ثمار صمودها وحدة في أراضيها وانسحابًا لتركيا من الأراضي التي تسيطر عليها، هذا ما قاله الرّئيس الأسد لبوتين فهل توافق تركيا؟ لعلّ ذلك الطّرح كان أحد أسباب تأجيل اللقاء الّذي كان مقرّرًا في السّادس عشر من الجاري إلى ما بعد الانتخابات التركيّة، نقول لعلّ ولا نجزم.
ولتركيا مصالحها الخاصّة في إنجاح هذا اللقاء، فهي تطمح إلى إعادة اللاجئين السّوريين إلى بلادهم وقد باتوا في تركيا، كما في لبنان والأردن، عبئا اقتصاديًا وديموغرافيًّا ينبغي إيجاد الحلّ المناسب له، وهذا الحلّ لن يأتي دون إحلال الأمن في سوريا، كذلك هي تريد أن تحلّ مشكلة حزب العمّال الكردستاني الّذي تعتبره تهديدًا إرهابيًّا على حدودها.. ولها فوق هذا وذاك، مآرب أخرى.
إنّ تشبيك تركيا وهي العضو في حلف النّاتو، في اتّفاقات مع المحور المعادي للولايات المتّحدة يُعتَبَر إنجازًا لهذا المحور، وفي حال نجح فإنّه سيشكّل مقدّمة للقاء إقليمي أوسع ممّا تمّ الاتّفاق عليه إلى الآن، فهو على الرّغم من التّهديدات الأميركيّة، سيشقّ طريقه ومن يدري ربّما تنضمّ إليه أطراف إقليميّة أخرى بدأت تتحسّس التّراجع الأميركي، وتدرك أنّ عليها أن تبدأ الانحراف شرقًا، ولعلّ ما حصل في الصّين من اتّفاق سعودي- إيراني يشي بشيء من جرأة سعوديّة كانت لفترة غير بعيدة مستبعَدة، فهل تتّسع دائرة هذه الجرأة السّعوديّة لتنضمّ إلى لقاءات مشابهة، كلّ ذلك ممكن، فنحن في حقبة سياسيّة وعسكريّة لا يمكن التّنبؤ بأحداثها.
بالنّسبة للقيصر بوتين وهو المتحرّك الأبرز على رقعة العالم، يمدّ اليد للتّدخّل في منطقة تعتبرها الولايات المتّحدة مجالاً حيويًّا لها، فهل يكون القرار الّذي أصدرته محكمة العدل الدولية بالقبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب محاولة أميركيّة للجم اندفاعته، وهل ستقدر؟؟
سيتمّ اللقاء الرّباعي في موسكو، كما تمّ اللقاء السّعودي- الإيراني في الصّين، ومن يدري لعلّ لقاءات أخرى تتمّ لتشقّ الطّريق نحو عالم جديد، لم تتّضح معالمه بعد، لكنّ الأكيد أنّ كيانات ما بعد الحرب العالميّة الثّانية يتهاوى كما تتهاوى أحجار البازل ومعها يتهاوى عالم ليولد عالم جديد، فلننتظر قليلاً ومن يعش يرَ.