سعاده في مواجهة الخيانة سقوط المسؤول الحزبي: مأمون أياس نموذجًا ـ الحلقة الثامنة (12/8)

قبل التطرّق إلى الصدام التنظيمي الذي انتهى بطرد مأمون أيّاس، لا بدّ من التذكير بأنّ نظرته إليه في مراحل سابقة كانت مختلفة تمامًا. فقد كان أيّاس، في نظر سعاده، واحدًا من المسؤولين البارزين في الحزب، وقد أسندت إليه مهامّ أساسية في الإدارة والتنظيم، ولا سيّما في موقعه كناموس للمجلس الأعلى ومديرٍ لـ«دار النهضة». وتشير نصوص تلك المرحلة، ولا سيّما ما نُشر في جريدة الزوبعة خلال سنوات الحرب، إلى أنّ سعاده كان يدرجه ضمن صفّ الأمناء الذين مثّلوا الحركة القومية الاجتماعية في عملها المؤسسي، وقد أثنى على نشاطه العملي ودوره في تقوية أجهزة الحزب وتطوير وسائل نشره.[1] إنّ هذه الثقة السابقة تُظهر أنّ القضية لم تكن، في أصلها، خلافًا شخصيًا أو تصفية حسابات، بل تحوّلًا جذريًا في السلوك والالتزام، جعل من أيّاس نموذجًا للسقوط التنظيمي بعد أن كان يُعدّ من أركان العمل الحزبي.

تُعدّ رسالة أنطون سعاده إلى رفيق الحلبي بتاريخ 22 حزيران 1947 إحدى الوثائق الحاسمة التي تُبرز دور مأمون أياس[2] في المحاولات الداخلية لتعديل النظام الحزبي بعد عودة الزعيم إلى الوطن. ففي هذه الرسالة يشير سعاده بوضوح إلى أنّ بعض الأشخاص في المركز الحزبي، ومن بينهم مأمون أيّاس، كانوا متورّطين في مساعٍ لتعديل الدستور أو لتقييد صلاحيات الزعيم أو للدعوة إلى مزيد من «المسايرة» مع الاتجاهات اللبنانية المحلية. ويبدو أنّ هذه المحاولات كانت نتيجة نزعات نشأت خلال سنوات ما بين الحربين، وفي فترة غياب سعاده، ادّعت لنفسها طابعًا «تجديديًا» أو «مرنًا»، ودعت إلى مزيد من الانخراط في العمل السياسي العملي، أو إلى إعادة توزيع الصلاحيات الداخلية.

ويشير الباحث عادل بشارة، في كتابه فايز صايغ القومي، إلى أنّ الحكومة اللبنانية نجحت في فترة غياب سعاده في تحويل الحزب القومي إلى منظمة لبنانية، بحيث أصبح بحلول عام 1946 حزبًا لا يمكن تمييزه عن الأحزاب اللبنانية الأخرى، ولا يشبه الحزب القومي السوري فيما كان عليه في العقد السابق؛ إذ حُذفت كلمة «سورية» من اسم الحزب، وتم تعديل علم الحزب، وقُلّصت تحية الحزب، وشُطب لقب «الزعيم» عن سعاده.[3]

ويسرد سعاده في الرسالة كيف أنّ أيّاس، إلى جانب نعمة ثابت وأسد الأشقر، شاركوا في ترويج فكرة مفادها أنّ الحزب ينبغي أن يكون «ديمقراطيّ الشكل»، أو أن يُقيَّد دور الزعيم أمام مجلس أعلى، وأن يُعدَّل الدستور بحيث يجعل الزعيم مسؤولًا أمامه. وقد اعتبر سعاده هذه المحاولات في غاية الخطورة، لأنها تتعارض مع وحدة العقيدة والمنهج.[4] فمن منظوره، إنّ الطرح الدستوري الذي يقترح «مساءلة» الزعيم أو توزيع السلطة بطريقة تُضعف المرجعية العليا لا يُعدّ نقاشًا إداريًا عاديًا، بل تهديدًا لهيكلية الحركة نفسها؛ إذ إنّ وحدة العقيدة تستلزم وحدة القيادة بوصفها شرطًا وجوديًا للنهضة.

لذلك بدا أيّاس، في نظر سعاده، لا مجرد مدير عملي، بل مروّجًا لمقاربة تؤدّي إلى تفتيت السلطة المركزية، وهو فعل يُقرأ بوصفه خيانة تنظيمية. ويُذكر أنّ أيّاس غاب عن الجلسة التي دعا إليها الزعيم لمناقشة هذا الشأن، مبرّرًا ذلك بانشغاله بتحضير موادّ جريدة الولاء التي كان يعمل محرّرًا فيها، وهو ما عدّه سعاده دليلًا على أنّ موقفه لم يكن موقف قائد حزبي ملتزم، بل تصرّفًا فرديًا طارئًا.

وعندما دعا الزعيم إلى جلسة استثنائية في 4 نيسان، أعلن حلّ المجلس الأعلى والمكتب السياسي، وأبلغ الحضور أنّه سيُشكّل مجلسًا جديدًا وفق «الاختبارات الجديدة» التي وضعها في ضوء خروقات التمرّد التنظيمي. ومع استفحال المعركة الداخلية وخروج أخصامه إلى العلن، قام بطرد المتمرّدين، وعلى رأسهم نعمة ثابت ومأمون أيّاس وأسد الأشقر، الذي ما لبث أن عاد إلى صفوف الحزب بعد فترة قصيرة.

يُظهر هذا الموقف أنّ القضية عند سعاده لم تكن فكرية فحسب، بل شملت أيضًا إعادة تأكيد سلطة الزعامة ودور القيادة المركزية، في سياق فكري ومنهجي واحد مع المواجهة التي خاضها ضد فايز صايغ والانحراف العقائدي.

خاتمة: وحدة المواجهة الفكرية والتنظيمية

إنّ تتبّع رسائل سعاده حول كلٍّ من فايز صايغ ومأمون أيّاس يُظهر بوضوح أنّ الزعيم واجه نوعين متكاملين من التحدّي: الانحراف العقائدي من جهة، والانحراف التنظيمي من جهة أخرى. فصايغ مثّل محاولة لإعادة تفسير مبادئ النهضة من منظور ليبرالي غربي يفرّغ العقيدة من جوهرها القومي الاجتماعي، في حين جسّد أيّاس نزعة لتطويع النظام الداخلي بما يُضعف وحدة القيادة ويُبدّد المرجعية العليا للحزب.

وقد تعامل سعاده مع هذين المسارين بوصفهما مظهرين لأزمة واحدة في الفهم والانتماء، مصدرها الابتعاد عن منطق العقيدة الذي يربط الفكر بالممارسة، والنظام بالمبدأ. ولذلك جاءت ردوده مزدوجة: فكرية – عقائدية في مواجهة صايغ، وتنظيمية – مؤسّسية في مواجهة أيّاس، لتؤكّد أنّ صيانة النهضة لا تتحقّق إلا بتلازم صفاء الفكر وانضباط النظام.

بهذا المعنى، تمثّل القضيتان معًا نموذجًا مبكرًا للصراع بين جوهر النهضة ومظاهر الانحراف التي تُهدّدها من الداخل، وتُظهران كيف أنّ قيادة سعاده كانت، في آنٍ واحد، فكرًا ناظمًا وسلطة مبدئية ضامنة لوحدة العقيدة والحركة.

بهذا يتّسع مفهوم الخيانة الفكرية لدى أنطون سعاده ليشمل كلّ مسٍّ بالصفاء الفكري وكلّ عبثٍ بالمنهج النظري للنهضة. فهي لا تقتصر على التخلي الصريح عن العقيدة، بل تتخذ أشكالًا أخطر وأكثر التواءً، تتمثل في تحوير الفكرة، وتزييفها، وتمييعها، أو استغلالها تحت عناوين ثقافية أو فلسفية أو أخلاقية عامة. وفي هذا المعنى، لا يكون الخائن الفكري فقط من يهجر الفكرة، بل – وهو الأخطر – من يبقى داخلها ظاهريًا ليقوّضها من الداخل، محوِّلًا العقيدة من منهج اجتماعي تاريخي إلى مادة تأويل فردي وتجريد ذهني.

وتغدو الخيانة الفكرية، في المفهوم السعادى، مرضًا عضالًا يصيب روح الأمة وهويتها، لأنها تستهدف الأساس الذي تقوم عليه وحدة القصد ووحدة الاتجاه، مهدِّدةً النهضة في جوهرها قبل أن تمسّ مظاهرها التنظيمية أو السياسية. ولذلك يصفها بأنها «انتحار مناقبي» و”خيانة فاضحة”[5]، لا تقلّ خطورة عن الخيانة السياسية العظمى، لأنها تهدم رابطة الثقة الفكرية والتنظيمية التي تشكّل أساس أي نهضة حقيقية وراسخة.


[1] راجع الأعمال الكاملة، المجلدين السادس والسابع، الاحتفال بمولد الزعيم في بيونس آيرس، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 39 ــــ 40، 1/3/1942؛ والحزب السوري القومي الاجتماعي إيمان يقوى وحركة تعظم – أخبار الوطن الأولى الخطيرة، الزوبعة، بوينُس أيرس، العدد 85، 10/8/1945.

[2] مأمون أيّاس ظهر في مراسلات أنطون سعاده كشخصية من صفوف الإدارة المركزية/المركزيين في الحزب السوري القومي الاجتماعي خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين. شغِل مواقف تنفيذية ونشط في التواصل مع أحزاب وشخصيات محلية والتعامل مع الشؤون الصحفية والإعلامية (مثل التحرير أو المساهمة في «جريدة الولاء» بحسب مراسلات الزعيم).

[3] عادل بشارة، فايز صايغ القومي، تجربته في الحزب السوري القومي الاجتماعي (1938-1947)، دار الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2018، ص 67-68.

[4] رسالة سعاده إلى رفيق الحلبي، 22/06/1947.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949،”نعمة ثابت بطل الخيانة”، نشرة عمدة الإذاعة، بيروت، المجلد 3، العدد 4، 15/8/1947.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *