كل شيء، يتراكم في الثقافة، وهي المحرك الأساسي للسلوك البشري، في مجتمع، وحتى في حالة اللامجتمع، يتراكم، العنف، الفساد، الذوق المتدني، اللامسوؤلية، الإفلات من العقاب إلخ، وفي المقابل يمكن أن تتراكم أيضاً ثقافة السلام، والجمال، والمسؤولية، والابتكار.. وأيضاً إلخ. مشكلة هذا التراكم أن لا حد لضرره، أو لفوائده، فسيرورة الاجتماع البشري مستمرة، ما دامت هناك ثقافة، أية ثقافة تفعّل هذه السيرورة إلى ما لانهاية، وفي الطريق يعيش الإنسان نوع من السعادة يشبه ثقافته، حيث يمكن للحرامي أن يكون ذكياً ومسروراً بذكائه ونجاحاته في السرقة، مسجلاً ( كفرد) أعلى مستويات السعادة والتعالي على خصوم افتراضيين، ليس على عداوة معهم، حيث يتحول التعالي نفسه إلى ثقافة مكتسبة، ومرجعية للسلوك البشري، تجعل من كل آخر عدو، ومن الواجب القضاء عليه، على افتراض أن هذا الحكم يؤدي إلى السعادة، وهكذا تتشكل ثقافة هذا الاجتماع البشري على جريمة، تصبح منسية، بسبب عدم تعرضها للنقد أو الانتقاد، ويصبح الأداء الجرمي جزء من السلوك البشري لهكذا نوع من الاجتماع، يتم الدفاع عنه ثقافياً مهما كانت فظاعة الأداء الناتج عن هكذا ثقافة، ومهما كانت نتائجه، ومهما كانت ضحاياه تتمتع بحقوق بشرية، ومهما كانت الأثمان التي ستدفع، فالتراكم الثقافي يمكن له أن يبررها، لا بل يجعل منها أداءات لخير البشرية جمعاء، وهكذا يفعل التراكم في مواجهة استحقاقات العيش القيمي، الذي تصالحت عليه البشرية كلها.
في التراكم الثقافي الآنف، ليس هناك فرصة للصواب أو الخطأ لاعتمادهما كمعايير ثقافية، لتقييم الأداء من أجل تصويبه، أو المحاسبة عليه، حيث تغطي اللامسوؤلية، الهوة بين، بين الصواب والعرف ( التقليد)، إذ أن الصواب دائما ما يكون مشروطاً، بمراعاة الثقافة الاجتماعية ليس المجتمعية)، فلا يستطيع فنان أن يرسم لوحة من إمكانيات خياله المعرفي الجامح، بل عليه انتظار الضوء الأخضر من الثقافة التقاليدية، التي لا تعلم ولا تعرف،( ولا أحد يدري إنها تريد أن تعلم وتعرف) ما الذي حدا بالفنان رسم هذه اللوحة أو تلك، ولا تعرف أن ما اقترفه الفنان من إبداع هو قيمة جمالية تساهم في تراكم ممارسة الجمال، كقيمة خيرية، تشارك الأداء البشري في إنقاذ الجماعة من الفاقة المعرفية التي تحتاجها في مقاومة الفناء، فالفناء مسألة واردة في حال اجتمعت البشرية (راكمت) واتفقت على إفنائها ( النازية مثالاً)، حيث لا حل إلا بمراجعة الثقافة المتبناة وقيمها وتأثيرها، والأهم من سيدفع ثمن تهافتها وسلبيتها.
في الحالين السؤال مشروع، حول من سيدفع ثمن تراكم التهافت الثقافي/ المعرفي؟، ومن سيحصد جوائز ممارسة المعرفة كثقافة تراكمية؟، في الحالين هو الاجتماع البشري هو من سيكسب ويخسر، ولكن وفي الحالين سيظهر أيهما المجتمع، وأيهما التجمع السكاني، وقد يكون الفارق بالعقل، وليس بالعلم أو المعرفة، وهذه صيغة متطرفة لوصف شعب من الشعوب، التي لا تقو، على مراجعة أداءاتها المتراكمة، مراجعة ثقافية/ معرفية، وتصرّ على أنها الأكثر علواً حضارياً وقيمياً، وهذا بذاته غشامة تفكرية ( تراكمية أيضاً) تسبق الجهالة بأشواط، ومدمرة أكثر منها بأشواط أيضاً.
من هنا يبدو النقد ضرورياً لتفكيك صيغ تراكم عوامل الفناء، وإعادة تركيبها في سياق محاولة البقاء والاستمرار، فكل شيء لا يتطور يموت كحكم دون رجعة، فتراكم ثقافة الإرتقاء تحتاج إلى الكثير من مراجعة الذات نقدياً، وبالتلي تحديد أدوات ووسائل الموات، باللجوء إلى تقييم الخطأ والصواب، وليس بجلب المزيد من الذرائع لدعم حالة الغشامة التي أصبحت مفضوحة، ولا يستطيع أحد إيقافها نتيجة التراكم الثقافي المضاد لفطرة الأشياء، المبنية على التطور من أجل الصمود، بعيداً عن الفناء، وفي مثالنا حو الفكر العنصري، لم يكن لألمانية أن تحصل على هذا المستوى الراقي من الوجود ( وزعت رفاهيتها على اللاجئين الغرباء)، لولا حيويتها التي في مراجعة نفسها من زاوية الخطأ والصواب، وليس من زاوية الخصوصية والتعالي.
تراكمية معاداة الخطأ والصواب، والمسؤولية عنهما، يدمر أية بنية للاجتماع البشري مهما كان نوعه خصوصاً إذا كان من النوع التجميعي الارتجالي، فالطائفية على سبيل المثال هي تراكمية واضحة للجهالة، على الرغم من تراكمية صغيرة صنعها المثقفون والمفكرون حذرة من هكذا نوع من الثقافة، لأنها مضادة للثقافة الحقوقية التي تبنى عليها الأوطان، وانتصار الطائفية، يعني تماما القرب من الفناء، ناهيك عن أثمان باهظة مثل الجوع والعطش والأمان، كعوامل مؤسسة للوجود الجماعي، الذي لا يمكنه البقاء دون تراكم ثقافة حقوقية، تقونن الخطأ والصواب الدنيويان، تدار بها التجمعات البشرية كي تتحول إلى مجتمعات وأوطان.

