جبران خليل جبران رأس الحداثة العربية

جبران خليل جبران، رأس الحداثة العربية بلا منازع، أحدُ الأحادِ في عبارة مجدِّدة تنسلّ من أثر الكتاب المقدّس عليه، كما ظهرَ ذلك جليّاً في مؤلّفاته عرائس المروج والأرواح المتمرّدة ودمعة وابتسامة؛ إنّه صاحب الفضل في تأسيسه «الرابطة القلميّة»، اقترنَ اسمه، على مدى الآباد والأزمان، بحركةِ التجديد في الأدب العربي الحديث، وحركة الحملة على القديم، وحركة التحرّر من قيود الأساليب والوزن، وحتى من سياق التفكير نفسه، فبقي حتى الساعة رائدَ الروح الأدبيّة المفكِّرة التي أطلّت على الدنيا برهة ثم غابتْ، وهو نصّه منارة لأجيال لاحقة تغذّتْ منه واقتدتْ به.

تأثّرَ جبران بمبادىء الثورة الفرنسيّة وأحرارِ مفكِّريها تأثّراً عظيماً، وكان في مطلع سيرته الأدبيّة أعربَ عن ثوريّة غاضبة، متّسمة بسمات بارزة من الثورة الفرنسيّة، فكان لروايته الأجنحة المتكسّرة قوّة حيويّة ثوريّة ما كفلَ بقاءها طيلة قرن من الزمان منهلاً لروّاد الإصلاح والانقلاب في الشرق، إذ رأى فيه المفكّر أنطون سعاده القبسَ الذي يسبقُ فجرَ النهضة القوميّة، ففي روايتيه عيد سيّدة صيدنايا وفاجعة حبّ جرى سعاده مجرى جبران واختطّ مسارَه، أُسلوباً وشكلاً ومحتوى، في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وإرساء تفكير جديد ينهضُ على مناقب الحبِّ والخير والجمال. في مقالته «يوم مولدي» أرّخ جبران لنشأته التحرريّة:

قد أحببتُ الحريّة فكانت محبّتي

تنمو بنموّ معرفتي عبوديّة الناس للجورِ

والهوانِ، وتتّسعُ باتّساع إدراكي خضوعهم

للأصنام المخيفة التي نحتتْها الأجيالُ

المُظلمة ونصّبتْها الجهالةُ المستمرّة ونعمتْ

جوانبُها ملامسَ شفاه العبيد. لكني كنتُ

أحبّ هؤلاء العبيد بمحبّتي الحريّة

وفي مقالته التي وصفَ فيها بؤسَ أهل لبنان زمن مجاعة الحرب العظمى الأُولى، وعنونَها «ماتَ أهلي»، قال:

لو ثارَ قومي على حكّامهم الطغاة وماتوا

جميعاً متمّردين لقلتُ إنّ الموتَ في سبيل

الحريّة لأشرفُ من الموت في ظلّ الاستسلام

بهذا النفَس الثوريّ وبهذه الروح المتمرّدة أطلّ جبران على مسرح الحداثة العربية بعبارة مطواعة يواكبُ شكلُها محتواها. وكان فؤاد سليمان رأى أن جبران هو الأديب الوحيد الذي عبّر عن نفسيّة الأُمّة.

في كتابه النفيس جبران خليل جبران: إطاره الحضاري (ترجمه إلى العربية عام 1982 سعيد فارس بار بإشراف حاوي نفسه، وهو أطروحة حاوي بالإنجليزية في جامعة كامبردج 1959)، رأى خليل حاوي أنّ أسلوبَ جبران يَرقى إلى مصاف الشّعر، وهذا مردّه لجوء صاحبه إلى الخيال والإيقاع، متكئاً على عبارة الكتاب المقدّس والحفاظ على شحنة الإيحاء اللفظي بموازاة فكرة الرمز، مستمدّاً صُوَره من إيمانه بوحدة الوجود، ما أحالَ نصَّه إلى حساسيّة رومانسيّة مُغرقة، مستفيداً من تراث الحركة الرومانسيّة في إنجلتره، سيّما وليم بليك، وأميركة كما عند إمرسون وثورو، مضيفاً إليها فلسفة نيتشه، ما أسهمَ في دفعِه الحداثة العربية إلى مناحي شاسعة من الإبداع، سيّما أنه شكّل ذائقةَ مارون عبّود والياس أبو شبكه وفؤاد سليمان وسامي الكيّالي، بنهلِه من شغفِه بالطبيعة على مذهب روسّو الآخذ بما تجرّه الحضارة من فساد على النفوس. أمّا توفيق صايغ الناشىء جبرانيّاً في الأربعينات فقد أعاد النظر في مكانة جبران عنده في الستّينات. في كتابه النقدي الهام أضواء جديدة على جبران: دراسة أدبيّة (بيروت: الدار الشرقيّة للطباعة والنشر، 1966)، وثّق صايغ دقائقَ حياة جبران، العاطفيّة والسياسيّة والثقافيّة، مستمدّة من أهمّ مصدرٍ أوّلي عنه: 1760 صفحة من الرسائل الحميمة التي تبادلَها مع ماري هاسكل، هي مجموع 625 رسالة طيّرها جبران إلى صديقته التي أودعتْ هذه الرسائل لدى مكتبة جامعة نورث كارولينا الأميركية إثر وفاة جبران بعشرين عاماً، وهي رسائل جبران إلى ماري هاسكل بين 1908 و1931، إلّا أنّ صايغ ارتدّ عن جبرانيّته بأناقة ودقّة في توطئته إلى كتابه هذا:

لأعترف، منذ البداية، بأنّي في بحثي هذا

عن جبران خليل جبران تنقصُني مؤهّلتان

مهمّتان: أُولاهما أنّي بطبيعتي لستُ باحثاً،

وقد تجنبتُّ دوماً الأبحاث والدراسات

وعياً منّي لامتناعها عليّ وإدراكاً منّي أني

إن نجحتُ فيها بعضَ النجاح فإني

إنما أرطنُ بلغة غريبة. وثانيتهما أنّي

لستُ جبرانيّاً، بمعنى أنّي لم أدرسْ نتاجَ

جبران الدرسَ النقدي الصحيح ولم أعدْ إلى

قراءته من جديد بعد أن كنتُ قد قرأته

قبل العشرين، أي في الوقت الذي

يُؤخذ المرءُ فيه بجبران، وبمعنى أني

لستُ من المُولعين بالنتاج الجبراني،

لا بالناحية الشعريّة فيه ولا الأدبيّة

ولا الفكريّة ولا الفنيّة، وأرى أن الاطلاع

عليه، وربّما التمتّع به، في طورٍ مبكرٍ من

أطوار حياة المرء عندنا هو عارضٌ لا بُدّ أن

يُصابَ به المرء ويضحي بعدَه بمنجاة من تكرّره

ورغم انقلابية صايغ هذه على جبران، وتحوّله عنه، جاء كتابه أضواء جديدة على جبران: دراسة أدبيّة من أهمّ الوثائق الأدبية الشخصية، إذ أزاحَ صايغ الستارَ للمرّة الأولى عن جبران جديد ينفض أُسسَ النظرات القديمة إليه وإلى نتاجه كلّه، وعليه اكتسبَ جبران، انطلاقاً من هذا الكشف الرائع، عمقاً حقيقياً واقعيّاً لم يكنْ له من قبلُ، وهو كشفٌ أدبيّ عن حقيقة جبران وحياته وفنّه وأحاسيسه وحبّه.

وفي مؤلّفه الهام في الأدب العربي الحديث والمعاصر (2004) أشارَ أنطون غطّاس كرم إلى أن جبران كثّف إحساسَه بالغربة بالثقافة الرومنطيقية الأصيلة، فكان من نتائج رحيلِه في الأشياء والحلولِ فيها أن تفرّعتْ الصورة الأدبيّة عند جبران إلى ثلاث مناطق: منطقة الرؤى الداخليّة أو العالم المُغلق، ومنطقة الرحيل الصوفي أو العالم المنفتح، ومنطقة الخارق أو هندسة العالم المُضعضع. ويلحّ كرم أنّ الحياة الرعاويّة عند جبران تنسلُّ من ذاكرة متّقدة، فتنبلجُ بأكملها: الموقد، السراج، الدرب والحقول، الكنيسة والكروم، الشجر والورق، الظلّ والهمس: براعمُ الزهر وذوبُ الثمر. هو عالمٌ يمنح القارئ إيحاء الانطباعيّين، إذ أنه عالم تأتيه ملامحه عبرَ الزمن ومن بعيد ويوسّعها الحنين: إنها قطع نفسيّة علقتْ في المكان ومجموعات عاطفية في متحف الذكرى الحالمة.

على مدى مئة عام بقي جبران مصدر إلهام ووحي ليس فقط لروّاد الحداثة العربيّة بل أيضاً لأعلام الفكر السياسي العربي إذ أنّ عبارته انطوتْ على الرومانسية الوجودية وعلى الرمزيّة الهادفة، فكان أدبيّاً بقدر ما كان سياسيّاً.

محمود شريح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *