ـ ملخّص:
بعد 2025، لا يعود السؤال في الشام محصورًا بهوية الحاكم أو تبدّل الوجوه، بل بطبيعة الدولة التي تتشكّل: دولة تُدار بالخوف والشبكات، أم دولة تُبنى بالقانون والمؤسسات.
يناقش هذا المقال موقع الجيش في قلب معركة الشرعية، وعلاقته بالعقد الاجتماعي، ودور الخارج في تعطيل أو تمكين قيام دولة سيادية قابلة للحياة.
بين استقرار مُدار، وتفكك ناعم، وإمكانية إعادة بناء الدولة، ترسم الشام اليوم مساراتها الأخطر منذ قرن.
«إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن» ـ سعاده (المبدأ الإصلاحي الخامس)
ـ مقدّمة: من سؤال السلطة إلى سؤال الدولة
بعد سقوط النظام القديم، بدت الشام أمام لحظة تأسيسية نادرة. غير أنّ هذه اللحظة سرعان ما كشفت أن السؤال الجوهري ليس من يحكم، بل كيف تُدار السلطة، وبأي منطق، ولصالح أي نموذج من الدولة، ولصالح من؟ لم تعد المسألة تتعلّق بالسيطرة على العاصمة أو إعادة ترتيب مواقع النفوذ، بل ببنية الحكم التي تتشكّل: هل نحن أمام دولة تُدار بالدستور والمؤسسات والقانون، أم أمام فضاء سيطرة تُنتجه منظومات أمنية متشابكة، تُدار فيه السياسة بالخوف بدل الشرعية؟
تُظهر التجربة الشامية، تاريخيًا وحديثًا، أن القسر قد يفرض استقرارًا مؤقتًا، لكنه لا يُنتج دولة قابلة للحياة. فالشرعية لا تُبنى بالقوة وحدها، بل عندما تتحوّل السلطة إلى مؤسسات، وتُعاد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الحق والمواطنة لا الطاعة والانصياع والمهادنة الكاذبة. وكل انتقال يتجاهل هذه القاعدة، مهما بدا ناجحًا في بداياته، ينتهي إلى إعادة إنتاج الأزمة بصيغة مختلفة.
ولا يمكن فصل انهيار النموذج السابق عن إضعاف الجيش بوصفه مؤسسة وطنية جامعة، وتسييد منظومات موازية من ميليشيات وموالين وفصائل وشبكات أمنية واقتصادية أصبحت أعلى من الدولة نفسها. فحين يتحوّل الجيش من مؤسسة سيادية إلى أداة ضمن منظومة شبكات، وحين يُستبدل باحتكارات عنف محلية سهلة الاختراق، يبدأ تفكك الدولة من الداخل، حتى قبل أن تسقط سياسيًا.
ـ أولًا: دروس التاريخ ـ الشرعية ليست حدثًا بل مسارًا
منذ الاستقلال، لم تعانِ الشام من فراغ في السلطة، بل من خلل بنيوي في طبيعة الشرعية التي أحاطت بها. فالتاريخ السياسي السوري هو مسار انتقال من سلطة وظيفية مرتبطة بالخارج، إلى حكم الضبط الأمني، ثم إلى دولة الأجهزة، وصولًا اليوم إلى مرحلة انتقالية مفتوحة على مسارات متناقضة.
حكم حسني الزعيم عام 1949 لم يكن مشروع دولة، بل سلطة سريعة لإنجاز وظائف محدّدة: الهدنة مع إسرائيل، تمرير «اتفاقية التابلين،» وتسليم أنطون سعاده. كانت شرعية وظيفية لا مؤسسية، فسقط الحكم فور انتهاء دوره.
مع أديب الشيشكلي، انتقل الحكم إلى محاولة ضبط المجتمع عبر الأمن والدعاية. فحُلّت الأحزاب، وأُنشئ حزب السلطة بوصفه واجهة سياسية للنظام، وجرت السيطرة على الإعلام والتضييق عليه تحت عنوان إصلاحات سياسية وإدارية جرى الترويج لها باعتبارها تحديثًا للدولة. غير أن سقوطه لم يكن داخليًا فحسب، بل ارتبط بتحوّلات الصراع الدولي في بدايات الحرب الباردة. ومع غياب عقد اجتماعي متين، عجزت الدولة الأمنية عن الصمود أمام تغيّر البيئة الإقليمية والدولية.
في عهد حافظ الأسد، تشكّلت دولة الأجهزة: استقرار طويل قائم على الحزب وأجهزة الأمن وإدارة التوازنات. بُنيت الشرعية على وعد الاستمرارية لا على المشاركة، وتحولت السياسة إلى أمن، ما راكم أزمات مؤجّلة انفجرت لاحقًا.
بعد حافظ الأسد، دخلت الدولة في مرحلة مختلفة شكليًا لكنها متآكلة بنيويًا. ففي عهد بشار الأسد قبل الحرب، جرى التركيز على مؤشرات النمو والانفتاح الاقتصادي، من دون إصلاح سياسي أو مؤسسي موازٍ. هذا التضخيم للأرقام الاقتصادية، مقرونًا بتوسّع الفساد وتزاوج السلطة بالريع، انعكس تراجعًا تدريجيًا في فعالية الجيش ومكانته، لمصلحة الأجهزة والشبكات الاقتصادية ـ الأمنية.
ومع اندلاع الحرب، جرى في بداياتها شيطنة الجيش بوصفه أداة قمع وقهر، مع إبراز الدور التسلطي للأجهزة الأمنية، ما ساهم في تآكل شرعيته الاجتماعية. ثم، ومع تطوّر الصراع، لم يُعاد بناء الجيش كقوة وطنية جامعة، بل جرى عمليًا استبداله بمنظومة ميليشيات وفصائل: موالية ومعارضة، محلية وعابرة للحدود. هذا المسار أنهك ما تبقّى من المؤسسة العسكرية، وأدّى في النهاية إلى انهيار شامل لوظيفة الدولة في احتكار القوة وتنظيمها.
اليوم، لم تعد الشام خريطة نفوذ عسكري فقط، بل جغرافيا سلطوية تُدار عبر شبكة سيطرة: مراكز احتجاز، معابر، لجان، وشبكات أمن ـ اقتصاد تتحكّم بالحياة اليومية. وفي هذا السياق، يُستعان أحيانًا بفصائل محلية أو تشكيلات عشائرية مسلّحة لتنفيذ مهام قسرية أو مجازر ترهيب طائفي قد تُحرج الأجهزة الرسمية أو تُقيّد هامش حركتها القانونية، بما يسمح بتوزيع المسؤولية أو التملّص منها بحجة «العناصر غير المنضبطة»، وتخفيف الكلفة السياسية المباشرة.
حاليًا، لا يُطرح السؤال حول إعادة تعريف علاقة الجيش بالمجتمع، بل حول إمكانية وجود جيش وطني أصلًا. فالمؤسسة التي شكّلت تاريخيًا عماد الدولة لم تعد قائمة، بل استُبدلت بتشكيلات وقوى متفرقة.
هنا يتأرجح «الحكم الانتقالي» الحالي بين خيارين:
– إمّا إعادة تأسيس الدولة من نقطة الصفر، بدءًا بإعادة بناء جيش وطني محترف خاضع للقانون والرقابة المدنية؛
– أو بناء وترميم سلطة قائمة على منظومة شبكات أمنية متعددة، يتفتّت فيها القرار، ويتحوّل الأمن إلى مصدر الشرعية العملية.
وما يُحسم في هذه المرحلة لا يتقرّر بالخطاب، بل بالممارسة اليومية: هل تُبنى المؤسسات، أم يُدار الخوف؟
–ثانيًا: الدين، الأيديولوجيا، والجيش ـ مثلث الشرعية الخطِر
في الدول الخارجة من نزاعات طويلة، تتشكّل السلطة غالبًا عبر تلاقي خطاب تعبوي ديني أو أيديولوجي، وأجهزة أمن، وقوة عسكرية غير منضبطة مهنيًا. هذا التلاقي يمنح طاعة سريعة، لكنه يصبح خطرًا حين يتحوّل إلى صيغة حكم دائمة.
الدين، بوصفه لغة تعبئة، يؤدي دورًا طبيعيًا في مرحلة ما بعد الصراع. لكن حين يُستدعى لتبرير السلطة أو لتعريف «الشرعي» و«المشبوه» ومحاكمة «الفلول»، يتحوّل من إطار قيمي إلى أداة ضبط، فتُستبدل المواطنة بالولاء، والسياسة بالطاعة، والمواطنة بالمداهنة المصلحية.
عندما يتماهى هذا الخطاب مع أجهزة القسر، تتشكّل أيديولوجيا الضبط: شرعية تُدار بالخوف لا بالحق. وفي ظل هذا المناخ، يستحيل بناء جيش وطني محترف، لأن الجيش يحتاج إلى عقيدة وطنية جامعة، لا إلى انقسام هوياتي بين «نحن» و«هم».
المخرج ليس في إقصاء الدين، بل في فصل القيم عن أدوات القسر: دين في المجال الثقافي والأخلاقي، ودولة تُدار أجهزتها ـ قضاءً وأمنًا وإدارةً وجيشًا ـ بمعايير قانونية ومؤسساتية.
– ثالثًا: الأقليات واللامركزية ـ اختبار الدولة الحديثة
تشكل مسألة الأقليات واللامركزية اختبارًا حاسمًا لطبيعة الدولة في الشام. فالأقليات تخشى الجيش إذا كان فئويًا أو مسيّسًا، بينما تخشى الدولة فكرة اللامركزية في غياب جيش وطني موحّد.
المعادلة واضحة: لا لامركزية آمنة من دون جيش وطني محترف، ولا جيش قابل للحياة من دون عقد مواطنة يطمئن الجميع. وعندما يغيب هذا التلازم، تتحوّل اللامركزية إلى جزر أمنية، وتتحوّل الأقليات إلى كيانات حماية ذاتية مرتبطة بضمانات خارجية، وتنهار فكرة الدولة الجامعة.
السؤال ليس بين حكم مركزي أو لامركزي، بل أي لامركزية: لامركزية خدمات وتنمية ومحاسبة تُنتج ثقة، أم لامركزية نفوذ وريع تُنتج تفككًا ناعمًا قابلًا للانفجار؟
ـ رابعًا: السيناريوهات الثلاثة ـ صراع المسارات ودور الجيش
لا يمكن مقاربة مستقبل الشام من خلال ثنائيات مبسّطة، من دون وضع مسألة الجيش في قلب التحليل. هنا تتبلور ثلاثة سيناريوهات:
1-الاستقرار المُدار (Managed Stability) دولة بحدّها الأدنى: أمن مضبوط نسبيًا، خدمات تمنع الانفجار، وجيش شبه مهني موحّد شكليًا، وظيفته منع الانهيار لا بناء الدولة. يحظى هذا النموذج بقبول خارجي بوصفه «أقلّ الشرور»، لكنه ينتج استقرارًا هشًّا بلا سيادة مكتملة.
2-التفكك الناعم طويل الأمد (Soft Fragmentation)دولة اسمية، وسلطة موزّعة على قوى محلية وشبكات أمن ـ اقتصاد. يغيب الجيش الوطني، ويضيع احتكار السلاح، وتتحوّل الشام إلى ملف إنساني ـ أمني. هذا السيناريو يُنهي فكرة الدولة تدريجيًا مع الحفاظ على مظهر الاستقرار.
3) إعادة مركزية مؤسسية تدريجية (Gradual Institutional Recentralization) المسار الأصعب، لكنه الوحيد القادر على إنتاج دولة قابلة للحياة، عبر إعادة بناء الجيش كقوة وطنية محترفة، بعقيدة غير أيديولوجية، خاضعة لسلطة مدنية. ينتج شرعية مستدامة، لكنه يواجه مقاومة داخلية وتحفّظات إقليمية.
يتبع

