قضية فايز صايغ: الانحراف العقائدي وخيانة النهضة
ظهر الخلاف أولًا في عام 1946 حين لاحظ سعاده، في رسالته إلى نعمة ثابت، بوادر انحرافٍ في عمل عمدة الثقافة التي كان يشرف عليها فايز صايغ، إذ بدأ الأخير يروّج في أوساط الحزب لمفاهيم فلسفية ودينية مستمدة من الفكر الغربي الفردي، ولا سيما من كتابات سورين كيركغارد[1] (Soren Kierkegaard) ونيكولاي بيردييِف (Nikolai Berdyaev) ويعطي الأولوية للأفكار الوجودية متذرّعاً أن الحزب لم يتبن فلسفة خاصة به.[2] وقد نبّه سعاده حينها إلى خطورة تحويل الحزب إلى ساحة آراء شخصية أو فلسفات خاصة، مؤكدًا أن العقيدة القومية الاجتماعية هي «نظرة متكاملة إلى الحياة والكون والفن» لا تقبل الإضافة أو التعديل، ولو حاول فايز دراسة هذه النظرة الفلسفية «وتتبعها بنفس القدر من الحماس كما فعل مع الوجودية لأصبحت واضحة بالنسبة إليه.» [3]
ومع تصاعد الخلاف، اتّضح أنّ فايز صايغ تجاوز حدود النقاش الفكري إلى محاولة تحويل عمدة الثقافة إلى منبرٍ لتعاليم مدرسة فلسفية، دينية، فردية، فوضوية، «هدامة لمبدأ الأمة وشخصيتها ووحدتها.»[4]
وكما يُظهر سعاده، اتّجه فايز صايغ إلى إعادة توجيه عمل عمدة الثقافة وجهةً شخصية، حوّل معها نشرة العمدة، التي أُنشئت أصلًا لخدمة قضية الحزب وتعميم تعاليمه، إلى منبرٍ يعكس تصوّراته الفكرية الخاصة وجدول أولوياته الثقافية. وقد برزت في هذه النشرة نزعةٌ واضحة إلى تقديم مفاهيم فلسفية وجودية وقيمٍ مثاليةٍ عامة، بوصفها مرجعًا أعلى للعمل الثقافي، بمعزلٍ عن الغاية القومية الاجتماعية وتعاليم النهضة كما حدّدها الحزب.
وقد نبّه أنطون سعاده، في رسالتيه إلى غسان تويني[5]، إلى أنّ الخلل الجوهري لا يكمن في الشكل أو الأسلوب، ولا في إخلاص القائمين على العمل الثقافي، بل في المنحى الذي يجعل من عمدة الثقافة مؤسسةً ذات سياسةٍ خاصة، تخضع لتوجيهٍ فردي، وتُقدَّم فيها «المثل العليا» وفق فهمٍ شخصيٍّ مستقل، لا باعتبارها مندمجةً عضويًا في العقيدة القومية الاجتماعية وغايتها التاريخية. ورأى أنّ هذا التوجّه يُفضي عمليًا إلى فصل الثقافة عن مرجعيتها الحزبية، وإلى إضعاف وحدة الفكر والقصد داخل الحركة.
وفي هذا السياق، انتقد سعاده، ضمنًا، ما بدا وكأنه تنصيبٌ غير معلن لعميد الثقافة بوصفه المرجع النهائي لسياسة النشرة ومضمونها، معتبرًا أنّ إظهار المسؤول الثقافي في موقع «الشخص النهائي» الذي يحدّد اتجاه العمل الثقافي يتناقض مع مبدأ النظام، ومع خضوع العمد جميعًا لإرادة الحزب وغاياته المقرّرة.[6] كما حذّر من أنّ تحويل القيم إلى مرجعٍ مجرّد، يُعرَّف خارج إطار العقيدة، يعيد النهضة من كونها حركةً اجتماعيةً تاريخية إلى مستوى إنسانيٍّ عام، قابلٍ للتأويل الفردي والتجريد الفكري.
ومن هنا، خلص سعاده إلى أنّ المسألة لا تُختزل في اختلافٍ ثقافي أو فلسفي، بل تمسّ حدود الصلاحيات، ووحدة النهج، وطبيعة العمل الثقافي بوصفه وظيفةً نهضويةً منضبطة، لا مجال فيها لتحويل المؤسسات الحزبية إلى أدوات تعبير عن رؤى فردية، مهما بلغت ثقافتها أو حسنت نياتها.
ثم جاءت رسالة سعاده إلى هشام شرابي المؤرخة في 29 كانون الأول 1947[7] لتكشف جانبًا أخلاقيًا آخر من القضية، حين أشار إلى أن صايغ نقل عبارات خاصة من رسالة غير منشورة له إلى فخري معلوف واستعملها في كتابه ‘إلى أين؟’ دون إذن أو أمانة فكرية، معقبًا على سلوكه بالقول: «إنّ هذا الفصل يريك أستاذك السابق في كل «نزاهته». وفي كل حال أرى أنك تهاونت في أمر الوثائق باعتمادك ما كنت تتوهمه في أستاذك السابق من الإخلاص والنزاهة.»[8]
وبناءً على تراكم هذه الممارسات، أصدر سعاده في 10 تشرين الثاني 1947 مرسوماً بإلغاء «النشرة الثقافية» وتحويلها إلى نشرة رسمية للحزب لا ينشر فيها «غير الإذاعات الرسمية من قِبَل الدوائر الـمختصة والبيانات التي تـحمل تعاليم الـحركة القومية الاجتماعية ونظرتها الـخالصة إلى الـحياة والكون والفن.»[9] وأصدر في 7 كانون الأول 1947 مرسومًا رسميًا بطرد فايز صايغ من الحزب بسبب «حركاته التمردية ودعوته إلى التفسخ العقائدي والروحي وإلى التمرد»، موضحًا في البيان أنّ ما ارتكبه ليس اختلافًا في الرأي، بل «خيانة فكرية تمسّ جوهر العقيدة ووحدة الاتجاه النهضوي.»[10] ردة فعل فايز صايغ على قرار طرده كانت سريعة، إذ أتهم سعاده في 10 كانون الأول من خلال صحيفة «النهار» بانحرافه عن هدف الحزب وخروجه عن مبادئه الأساسية وبإدخاله تغييرات على برنامجه، وأعلن «انسحابه» من الحزب.[11]
من خلال تتبّع الوثائق، يتبيّن أن قضية فايز صايغ لم تكن مسألة إدارية أو شخصية، بل صدامًا بين فلسفتين متناقضتين: الأولى، فلسفة الفرد المنعزل التي تستمد معناها من التجربة الذاتية والعاطفة الدينية؛ والثانية، فلسفة المجتمع – الأمة التي تقوم عليها العقيدة القومية الاجتماعية، والتي ترى الإنسان ككائنٍ اجتماعي لا تتحقق حريته وكرامته إلا من خلال انتمائه إلى أمته وتكامله معها.
لقد شكّلت هذه القضية منعطفًا حاسمًا في تطور الفكر القومي الاجتماعي، إذ رسّخت مبدأ وحدة العقيدة ووحدة النهج الثقافي، وحدّدت بوضوح وظيفة عمدة الثقافة بوصفها أداة لترسيخ النظرة القومية الاجتماعية إلى الحياة، لا مساحة لتجارب فكرية فردية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت قضية فايز صايغ مثالًا دائمًا على خطورة الانحراف عن الأساس العقائدي، وعلى صرامة سعاده في الدفاع عن نقاء النهضة وحقيقتها.
أثر القضية في ضبط الفكر القومي الاجتماعي بعد 1949
لقد تركت قضية فايز صايغ أثرًا عميقًا على الفكر القومي الاجتماعي بعد استشهاد أنطون سعاده في 1949. فقد أبرزت التجربة المريرة التي مثّلها هذا الانحراف العقائدي ضرورة التمييز بين الثقافة القومية الأصيلة والفكر الدخيل المتلبّس بلبوس الحداثة أو الروحانية، وبين المبادئ المستمدة من العقيدة والاجتهاد الفردي الذي قد يهدد وحدة النهضة.
وأكدت التجربة أن عمدة الثقافة ليست منبرًا للاجتهادات الفكرية الفردية، بل جهاز نهضوي يعكس رؤية الحزب الكلية إلى الإنسان والمجتمع والتاريخ. وهكذا، أصبحت قضية صايغ نموذجًا لتحديد الحدود بين الإبداع الفكري الملتزم بالعقيدة والتجريب الفردي الذي يفرّق بين أعضاء الحركة ويضعف وحدة الاتجاه.
كما ترسخت داخل الحزب قناعة أساسية: الثقافة القومية الاجتماعية ليست نشاطًا فكريًا معزولًا، بل جهاد عقائدي يحمي وعي الأمة من التبعية الفكرية والاغتراب الروحي. ومن هنا، تحوّلت القضية إلى مرجع تربوي وفكري لتنشئة الأجيال الجديدة على الانضباط العقائدي والالتزام الأخلاقي بوحدة النهضة.
[1] المعروف ب«أبو الوجودية» لتركيزه على التجربة الفردية للإنسان، فهو يعتبر أن الوجود الإنساني هو أساس الفلسفة، وهو ما يعني أن الإنسان مسؤول عن اختياراته ووجوده.
[2] عادل بشارة، فايز صايغ القومي، تجربته في الحزب السوري القومي الاجتماعي (1938-1947)، دار الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2018، ص 72.
[3] المرجع ذاته، ص 72.
[4] أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، المجلد السابع 1944-1947، قضية الرفيق فايز صايغ، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 01/12/1947.
[5] الرسالة الأولى صادرة عن مكتب الزعيم بتاريخ 09/07/1946. أما الرسالة الثانية فصادرة عن مكتب الزعيم بتاريخ 04/08/1946.
[6] عادل بشارة، فايز صايغ القومي، ص 70.
[7] رسالة إلى هشام شرابي، 29/12/1947.
[8] المرجع ذاته.
[9] الأعمال الكاملة (مصنفة)، تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي (الجزء الثاني)، مرسوم النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 1، 15/11/1947.
[10] قضية الرفيق فايز صايغ، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 2،1/12/1947. راجع ايضاً مقال «مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة»، منشور باسم هاني بعل في النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد، أ، العددان 3 و4، 15/12/1947.
[11] عادل بشارة، فايز صايغ القومي، ص 79.

