الهلال الخصيب: مختبر الفكر ومهد الخير الأممي

إن البحث في الأسباب التي تصوغ مفاهيمنا الكبرى ـ كالأخلاق والخير والشر ـ يقودنا إلى حقيقة فلسفية عميقة: هذه المفاهيم ليست وحياً ثابتاً يهبط من علو، بل هي تعبيرحيويووظيفي عن متطلبات الوجود في بيئة جغرافية محددة. إن الجغرافيا هي القابلة التي تولد منها الأخلاق؛ فكل بيئة، بخصائصها المادية، تفرض نظاماً قيمياً يضمن استمرار الحياة والارتقاء الاجتماعي لسكانها.

إن دراسة الفارق الجذري بين بيئة الهلال الخصيب، سورية الطبيعية، وبين بيئة الصحراء المجاورة، تكشف عن وجود نظامين أخلاقيين متمايزين: أخلاقالندرة التي تركز على القانون والنجاة المادية، وأخلاقالوفرة التي تركز على الفلسفة والروحانية والشمولية. إن حضارة سورية الممتدة لستة آلاف عام هي الشاهد الأعظم على تفوق وتعقيد النظام القيمي النابع من بيئة الوفرة والتنوع الحضاري.

الجغرافيا،البيئة،والفلسفةالأخلاقية (أخلاقالندرةمقابلأخلاقالوفرة)

لفهم نسبية الأخلاق، يجب أن ننظر إلى كيف تترجم الشروط المادية إلى حكم أخلاقي.

أخلاقالندرةوالقانونالمادي

في البيئات القاسية، التي تتسم بندرة الموارد (كالماء والمرعى  وسطوة المناخ كالحرارة)، يصبح التركيز منصباً على النجاةوالضبطالقبليالصارم. هنا، تتجسد الأخلاق في صورة قانونواضحوحرفي لا يحتمل التأويل، حيث لا يُسمح للفرد بتحمل المخاطر على حساب الجماعة. فالقانون، هو مركب سياسي إجتماعي يُكتب متأثراً ببيئته لتنظيم المجتمع. والدين كما القانون لا يمكن فصله عن بيئته التي نشأ فيها، فمفهوم الخير والشر/ الحلال والحرام، حتى لو كان واحد عند الله، فهو نسبيّ بالنسبة للبشر:

1 ـ مثالالوضوء: في هذه البيئة، الصحروية- غبار كثيف، كما ذكرنا، الوضوء هو فعلخير لأنه يخدم الصحة العامة والنظافة الشخصية في مواجهة الغبار والعدوى. إن حكم “الحلال أو الحرام” يطبق بسرعة وفعالية لأنه يتعلق بقضايا حياة أو موت (Survival Ethics). فيمكن لإبن هذه البيئة أن يدرك” الخير“ في الاغتسال قبل الصلاة، بعكس الإنسان الذي نشأ ببيئة يكثر فيها الماء ويقل الغبار.

2 ـ مثالالضيافةوالملكية: تصبح الضيافة قانوناً مقدساً لأن منع الماء عن عابر سبيل في الصحراء هو بمثابة قتله. وبالمثل، تكون حدود الملكية الفردية (إبل أو بئر) واضحة وحاسمة، وتطبق عليها عقوبات فورية لحماية استمرار الجماعة.

في هذا الإطار، يندر التفكير في المسائل الروحية والوجودية؛ لأن العقل مشغول بمتطلبات البقاء الآني. يكون الدين في هذه المرحلة في الغالب نظاماًتشريعياً أكثر منه نظاماً فلسفياً. وهذا ما يفسر تأخر نشوء الحضارة في شبه الجزيرة العربية.

أخلاقالوفرةوالفكرالروحي

في المقابل، تتميز بيئة الهلال الخصيب (سورية، الرافدين) بالوفرة الزراعية والمائية، وبالتنوع العرقي والثقافي الهائل الناتج عن موقعها كملتقى للطرق. هنا، تتراجع الحاجة إلى القانون المادي الصارم، ويتحول التركيز إلى:

1 ـ التعقيدالاجتماعي: كيف يمكن لمجتمع يضم الفينيقيين، والآراميين، والكرد، والإغريق، والاشوريين، أن يعيش معاً؟ الحل لا يكمن في قانون قبلي ضيق، بل في قانونأمميوفلسفةعالمية تتجاوز الأصول.

2 ـ التركيزالروحي: عندما تُشبع الحاجات المادية الأساسية ا(لطعام، الماء، المأوى)، يتفرغ العقل البشري للتفكير في الوجود، والمصير، والماورائيات. إن الخير هنا لم يعد غسل الغبار، بل أصبح تطهيرالروح، وبناء العدالة الاجتماعية، وتحقيق المساواة الفكرية.

فمنذ فجر التاريخ، كانت مدن الهلال الخصيب (إيبلا، ماري، أوغاريت، دمشق، حلب، تدمر) مراكز ابتكار:

Ÿ أوغاريتالقرن 14ق.م): قدمت أول أبجدية متكاملة في العالم. هذه الأبجدية لم تكن اختراعاً لغوياً فحسب، بل كانت أداةأممية؛ لأنها جعلت المعرفة والكتابة متاحة للجميع بدلاً من حصرها في الطبقات الكهنوتية التي تستخدم الهيروغليفية المعقدة. لقد سهلت هذه الأبجدية التجارة والتواصل والتدوين الفكري بين جميع شعوب المنطقة، وبالتالي كانت شرطاً أساسياً لظهور فكر عالمي لاحقاً.

Ÿ اللغةالآرامية: أصبحت الآرامية (والسريانية لاحقاً) هي اللغةالعالمية التي توحد الشرق الأوسط بأكمله، لغة الإدارة، والتجارة، والوثائق، واللاهوت لأكثر من ألف عام. هذا التجانس اللغوي، الذي تجاوز الانقسامات القبلية، خلق مساحة فكرية مشتركة ضرورية لنشوء دين عالمي.

الهلالالخصيب: ولادةالفكرالأممي

لم يكن ظهور المسيحية في الهلال الخصيب مجرد صدفة تاريخية، بل كان ضرورة فلسفية وحضارية ناتجة عن هذا التراكم الفكري:

لقد كان التفاعل بين اليهودية، التي نشأت أصلاً بشكلها المدني (بصيغتها الأولى التي ركزت على الكتاب والعبادة الجماعية بديلاً عن الهيكل) بعد السبي البابلي حيث أخذ اليهود معظم ثقافتهم -بدأوا عملية مراجعة وتدوين التوراة (الأسفار الخمسة)، وهو ما يُنظر إليه على أنه نقطة ميلاد اليهودية كديانة كتابية.- حيث يرى العديد من الباحثين أن مفهوم السبت (وم الراحة المقدس مثلاً) قد تأثر بالممارسات البابلية، حيث كان البابليون يقدسون أياماً معينة (مثل اليوم السابع والرابع عشر والحادي والعشرين والثامن والعشرين من الشهر) تُسمى شَبَّاتو” (Shabattu)، وهو مصطلح يعني “يوم تهدئة القلب” أو “الراحة” وكانوا يمتنعون فيه عن بعض الأعمال.  كما أن قصص الخلق والطوفان في سفر التكوين تظهر تشابهاً واضحاً مع الأساطير البابلية القديمة، مثل ملحمة الإينوماإليش (Enuma Elish) البابلية التي تروي الخلق، وملحمة جلجامش التي تتضمن قصة الطوفان، حيث كان المسبيون على اتصال مباشر بهذه النصوص. وحتى كلمة شيكل (شاقل) -عملة اليهود اليوم- هي وحدة وزن وليس عملة في البداية) بابلية/آشورية قديمة). ظهر استخدامها كوحدة للوزن والقيمة في بلاد الرافدين. اخذها اليهود، كوحدة قياس مالية فيما بعد.

وبين الفلسفة الهيلينية، فيلون السكندري مثلاً، الذي استخدم التأويل الرمزي الـ  Allegorical Interpretation) ) لتفسير نصوص التوراة، ليحاول أن يثبت أن الحقيقة الدينية اليهودية متوافقة، بل وأصل للحكمة الفلسفية اليونانية، وأن موسى (الشريعة اليهودية) كان مصدر إلهام لأفلاطون. كما وظّف المفهوم اليوناني الـ “لوغوس” (Logos)، والذي يعني “الكلمة” أو “العقل الكوني”، واستخدمه كوسيط بين الإله السامي المطلق التنزيه اليهودي والعالم المادي الفلسفة اليونانية- هذا المفهوم كان له تأثير كبير لاحقاً في الفكر المسيحي.

هو القوة الدافعة التي أدركت للعقول السورية أن فكرة “الإله القومي” أو “الإله القبلي” غير متوافقة مع مجتمع عالمي متصل تجارياً وفكرياً. فنشأ اللاهوت المسيحي في هذا المختبر السوري كأول دين يعلن رسالته لـ جميعالأمم، مركزاً على النعمة والخلاص الفردي والبعد الروحي (الذي يتجاوز التشريع الحرفي)؛ وهي قيم لا يمكن أن تولد إلا في مجتمع تجاوز معضلة البقاء المادي.: فنداء يسوع على الصليب إيلي،إيلي،لِماشَبَقْتَني؟، باللغة الآرامية- وليس العبرانية، هو شهادة خالدة على أن هذا الحدث الفكري العالمي نابع من رحم الثقافة السورية. لقد كان الفكر الروحي للمسيحية هو الجواب السوري على التناقضات الفلسفية والاجتماعية التي خلقتها الإمبراطوريات المتعاقبة. فسورية لم تستورد ديناً، بل صنعتالإنسانيةفيمفهومهاالعالمي، مستفيدة من عمقها الحضاري ومرونتها اللغوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *