بدر الحاج وغدي فرنسيس في كتابهما الموثّق، نصّاً وصُوراً وحواشي ومراجع، أنطون سعاده: شهادة الصُّورة 1904 – 1949 عنFolios limited،أكسفورد، خريف 2025، يردّان إلى مؤسِّس النهضة القوميّة في بلاد الشام فضلَه في إيقاظ الأُمّة السوريّة من غفوتها فجاء هو نفسه سعاده مُكملاً للفكر النهضوي في جبل لبنان، من بطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق إلى جبران خليل جبران وأمين الريحاني، ثمّ استقلَّ وحدَه فوقفَ قامةً مديدة إذ أسّس الحزب السّوري القومي الاجتماعي وهو دون الثلاثين، فشرّعه ووضع دستوره، داعياً إلى وحدة بلاد الشّام تحت بيرق الزوبعة، مناهضاً الإحتلال الأجنبي، مُرسياً فكره على المنهج العلماني، ثائراً على الإقطاع ورجال الدين، فكان لا بدّ مما ليس منه بدّ ساعةَ فصلَ الدين عن الدولة، فزُجّ به في السجن لثلاث مرّات وخرج منه وبيده نشوء الأُمم (1938)، أوفى تحليل منطقي علمي لنشأة الأُمّة السوريّة، بمنهجيّة لم يسبقه إليها أحدٌ، من حيث الكشف عن حركيّة التاريخ في صقل فكر الأُمّة.
بدر الحاج وغدي فرنسيس جالا في 382 صفحة من القطع الموسوعي في تفاصيل سيرة سعاده من مسقطه في الشوير إلى دراسته في برمّانا ثمّ فرير القاهرة، إلى أميركه فالبرازيل، فالعودة إلى بيروت ودمشق لتأسيس حزبه ثمّ انكشاف أمره فالهجرة إلى الأرجنتين لعقد مهّد فيه لعقد للإطاحة بالنظام الطائفي في لبنان فعقد النيّة والعزم على دكِّه. اقترنَ بجولييت المير ورُزقا هناك صفيّة وأليسار، طال عمرهما، فعادَ إلى بيروت عبرَ القاهرة حيث التقى بنعمه تابت وأسد الأشقر، فوصلها يوم 2 آذار 1947 وكان استقباله بالآلاف مؤدّين له التحيّة وألقى رأساً خطابه الشهير من شرفة نعمه تابت في الغبيري، وليس من شرفة مأمون أيّاس، كما ورد في الكتاب، متحدّياً أُسس الكيان اللبناني فصدرتْ مذكّرة باعتقاله رأساً بعد خطابه، فانتقل متوارياً إلى بشامون ثمّ ضهور الشوير، إلى أن وصلتْ الأمينة الأولى إلى بيروت وولدتْ لهما راغدة، طال عمرها، فانصرفَ الزعيم إلى نفض الحزب وإعادته إلى مسيرته النهضويّة وصراطها المستقيم، وكلّ هذه السيرة موثّقة بالمتون، والأهم بشهادة الصُّوَر والوثائق، ما نيّف على 400 صورة ووثيقة كان الفضلُ بمدّ غالبيّتها للكتاب لكريمتي الزعيم صفيّة وأليسار، فأضاف إليها بدر الحاج وغدي فرنسيس ما وقعا هما عليه فجاء أنطون سعاده: شهادة الصُّورة 1904 – 1949 سِفراً يكاد يكون جامعاً مانعاً لنضال سعاده ورفاقه على مدى خمسة وأربعين، كاشفاً عن محبّة العُمد له وعن استقبال أهل الساحل السوري له في لقطات نادرة لم ينلْها لا من قبلُ، ولا من بعد، سياسي سوري، محافظاً على تواضعه ورصانته وابتسامته، رغم حذرِه، في قرى ودساكر ومدن بلاد الشام، خطيباً مُفوّهاً مُرتجلاً وسط حشود مؤيّدة من طرطوس إلى طرابلس وصُور واللاذقيّة والبقاع، مارّاً بالغبيري وبرج البراجنة وبشامون والحدث صاعداً إلى أميون وحامات، مُحاطاً بالناس والعُمد المخلصين، فكان على الدوام وحتى السّاعة رمز الزعيم المتفاني في خدمة الأُمة عبرَ رسائله وخطبه ومحاضراته ومقالاته وكتبه.
كلُّ هذا وكلُّ ذاك، هو الذي أمضى 45 عاماً على ظهر هذه البسيطة، وهي أصلاً لم تُسَوَّ له، سبعة عشر منها في بناء حزب حديدي سائراً حتّى الآن، عشرون منها في المهجر، وسنتان منها في بيروت ودمشق عمل خلالهما على هزّ مفاصل النظام الطائفي وكان لا بُدّ له من هزّ، فأرداه قبل اغتياله وها بعد ثمانين نرفع التحيّة قائلين تحيا سورية يحيا سعاده، فيسري في العروق حبورٌ. كلّ هذا وكلّ ذاك في مئات الصُّور في الكتاب جمعَها بدر وغدي بجهديهما ومن إرث عائلة سعاده المؤتمن عليه صفيّة وأليسار، فجاء الكتاب واجباً ولازماً وضرورة، ومرجعاً للباحثين
يوسف سلامة هذا هو الذي عرّف هشام شرابي على عقيدة سعاده منذ 1943 حين كانا طالبيْن داخلييْن في الكليّة الاستعداديّة في أميركيّة بيروت، وشرابي هو الذي أعلمني وأنا عنده في جامعة جورجتاون في خريف 1992 وكان أستاذاً لتاريخ الأفكار فيها أن سعاده يتقدّم على مفكّري أوروبة اتّقادَ ذهنٍ وريادةَ رؤيا، وشرابي عرّفني عليه يوسف سلامة، ومن قبل كان بدر الحاج عرّفني على يوسفة سلامة، وعلى هذا النحو هيهاتِ أن ينقطعَ حبلُ الرفاقيّة من المودّة والإخاء في هذا الحزب العتيد، وكنتُ انجرفتُ في تيّاره بدءاً من 1964 فلا أنسى ما حييتُ ما رأيتُ فجرَ الأوّل من كانون الأوّل 1962 من شرفة أهلي على مطلٍّ من مخيّم برج البراجنة كيف أخرجَ عساكر نظام فؤاد شهاب القوميين منه بالبيجامات وألقوا بهم في شاحنات نقلتهم إلى المجهول سوى منفّذِ برج البراجنة، تربُ والدي، محمد راغب قبلاوي، الذي رموه بطلق ناري جثّة هامدة عند دوّار الغبيري، وعلى هذا النحو تفتّح ذهني بداية على المأساة إلى أن دفعَ إليّ أديب فرحة الوافد من مرجعيون بمؤلّف سعاده المسألة الفلسطينيّة في ربيع 1969 بتوصية من أستاذ التاريخ في الانترناشونال كولدج رائف لبكي النازل من بعبدات، فأدركتُ آنئذٍ أنّي واقع وإلى الأبد بين سندان الأرثوذكس ومطرقة الموارنة، والتقيت بأدونيس في العام نفسه فتأبّطت مواقف هدايا من أديب فرحة ورائف لبكي، طال عمرهما، ثمّ تعزّز إيماني بعقيدة سعاده لما شاهدتُ أستاذي الطيّب الذكر خليل حاوي يدقّ بقبضة يده بعصبيّة على طاولة نادي خرّيجي الجامعة الأميركية، ربيع 1974، جالساً في ندوة بين منير خوري وحليم بركات، رافعاً صوتَه في الحضور «أنا لم أخرج قيدَ أُنملة عن تعاليم الزّعيم، الحزبُ خرجَ»، وأدركتُ الوفاء لسعاده في مؤتمر ملكارت صوب ميلاد 1969 إذ رأيتُ عن كثب عبدالله سعاده ومحمد بعلبكي وإنعام رعد ومصطفى عزالدين وعبدالله محسن وعبدالله قبرصي خارجين من السجون، بعزم وثبات، فقلتُ الحزب بخير، وجلستُ إلى فؤاد عوض بعد حين وأسرّ إليّ «أذاهبون نحن إلى عهد الإمارة؟» فأدركتُ أنّ ليس لخلاف الرؤية ما يفقد الودَّ القومي، في عُرف سعاده، هذا للتوثيق، فلا بُدّ منه،
ذهبتُ إلى باريس للقاء أدونيس فحملتُ إليه هذا الكتاب فأمسكَ بهذا الكتاب وضمّه فرحاً إلى صدره فيما ذرفتْ عيناه وقال أنا لا شيء دون سعاده
لم أقع في الكتاب على صورة لجورج عبد المسيح ولا وردَ اسمه في النصّ ولا حتّى في حاشيه، وبالتالي، ولا في فهرس الأعلام. سمعتُ على مدى خمسين عن عبد المسيح (نزول طلوع) وقرأت عنه (عرض طول). رأيته مرّة واحدة في حياتي، عام 1997. ذهبتُ مع يوسف سلامة وهشام شرابي إلى جنازة أبو تمّوز، الياس جرجي قنيزح. دخل عبد المسيح باحة الكنيسة يتكىء على رفيقين وكان هرماً في التسعين. ثمّ أليسَ جورج عبد المسيح من دوّن محاضرات الزعيم العشر التي كان الزعيم نفسه أقرّ بموافقته على الخمس الأُولى منها ثمّ انشغلَ بنفض الحزب مما علقَ به من أردان، من خروج على العقيدة. أنطون سعاده: شهادة الصّورة 1904 – 1949 لبدر وغدي وبهمّة صفيّة وأليسار فتحٌ معرفي ولئن كان بودّي قراءة تقديم للكتاب من صفيّة وأليسار.
بقي أن أقول قبل مغادرة أنطون سعاده: شهادة الصُورة 1904 – 1949، ولو إلى حين، من باب الغمز واللمز، فليتّسعْ صدرُ بدر وصدرُ غدي وصدرُ صفيّة وصدرُ أليسار، فأقول أنّ صورة سعاده البهيّة وهو جالسٌ في مقهى الغلاييني عند بحر بيروت وعيناه تُبصران الثورة الاجتماعيّة الأولى من قريب وابتسامة على شفتيه في ساعة الوداع، في آخر ربيع من حياته، نيسان 1949، مُحاطاً بيوسف سلامة وهشام شرابي وفؤاد نجّار ولبيب زويّا يمق، وليس خالد جنبلاط، كما وردَ في الكتاب، لهي صورةٌ تاريخيّة تجمّد الزمان، بدا فيها لبيب زويّا يمق ناصعاً قبل عشرين على إصداره أطروحته في جامعة هارڤرد كتاباً عن عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي بعنوان: The Syrian Social Nationalist Party: An Ideological Analysis (1966). فهذا الخبز الروحي الطازج أبداً، الوافد من دستور الزعيم، دلالة واضحة أنْ ليسَ للواجب القومي حدود، سوى سُدرة المنتهى.
أعلى سعاده في أثره النفيس الصراع الفكري، بونس أيرس 1942، من شأن أبو العلاء المعرّي، فرأى فيه الشاعر السوري الخالد، وأكبرَ من قيمته الفلسفيّة، هو الذي من عشرة قرون رسمَ تضاريس وقفة العِزّ في صرفِه الشِّعرَ عن الخيال إلى الحقيقة، فجعلَه مسرحاً للنظر في الطبيعة والتفكير في الخلق والحكمة الاجتماعيّة
على هذا النحو هي المبادىء مكتنزاتُ الفكر والقوى وهي قواعد انطلاق الفكر في اتّجاه واضح، وها هو شهادة الصُّور قاعدة انطلاق في اتّجاه واضح، فهنيئاً لبدر وغدي وصفيّة وأليسار، وطوبى لهم، أبناء الحياة، ملحُ العقيدة، فإذا فسد الملح فبماذا يُملّح؟ أعود إلى جرأة أبو العلاء، وعليها عوّلَ الزعيم، وعلى جرأة الزعيم نحن نعوِّل، ونحن اليوم في مسارنا الحزبي على منعطف خطير وعند لحظة تاريخيّة تنذر بالويل والثبور وعظائم الأُمور، وهي جرأة الزعيم نفسها هي هي أن أفردَ بدر وغدي وصفيّة وأليسار عدّة صورَ في الكتاب لفايز صايغ مع الزعيم، وهو، لعلّه، أكبر متمرّد في تاريخ الحزب القومي، حين أصدر في 1947 كتابه إلى أين؟ بحث تحليلي نقدي في موقف «الحزب السوري القومي الاجتماعي» من الفكر والدين وحريّتهما (بيروت، دار الكتاب، 1947) رفعه إلى سعاده:
وإنّها طبعاً لجرأة بنفسِ تمرّدٍ، وهي حتماً جرأة وافدة من تراث الحزب السّوري القومي، وهو تمرّدٌ ينسلُّ من تربية صايغ السوريّة، مولداً، الفلسطينيّة، نشأةً، اللبنانيّة (لجهة والدته عفيفة البتروني)، ثقافة، هو الذي انخرط في الحزب القومي، في 1937، إلى جانب إخوته يوسف وفؤاد وأنيس بمباركة من أبيهم القسّ عبدالله صايغ، فيما انحاز إلى عقيدة الحزب باقي إخوته: ماري ومنير وتوفيق، ولأنّ الزعيم عرفَهم فرداً فرداً وباتَ عندهم في منزل العائلة في طبرية قبل سفره من ميناء حيفا إلى قبرص عام 1938، هو فايز نفسه القومي المتمرّد العنيد، إلّا أنّ سعةَ صدر الزعيم أنفتْ أن تردَّ الصاع صاعيْن والمكيال مكياليْن، إذ قرأ الزعيم إلى أين؟ فابتسمَ في قرارة نفسه قائلاً هذا الخبز من هذا العجين وأدركَ أنّ الصراع الفكري في الحزب القومي جوهر عقيدته وأنّ الخلاف ليس بالضرورة فاتحةً للانقسام داخل صفوف الحزب، فقاسمُه المشترك الأكبر هو سعاده نفسه، زعيماً ومفكّراً وقدوة.
سعاده وقفَ حياتَه كلَّها على فلسطين وفي سبيل فلسطين، وكان في السابعة عشرة عام 1921، حين نقضَ وعد بلفور وعرّاه، جملةً وتفصيلاً، فرأى فيه أفظعَ خيانةٍ تاريخيّة لمطالبِ السوريين القوميّة، وكانتْ أبيات الأخطل الصغير في قصيدته «ثورة فلسطين» مواكبةً لهدي سابق من سعاده،
هو الذي جنّبنا البهرجة النرجسيّة وحرّرنا من الفخفخة السياسيّة وفكّ أسرَنا من الميعان الفردي، هو الذي غادر الدنيا وفي جيب سترته 400 ليرة فقط لا غير، أوصى بها في محاكمته لزوجته وكريماته الثلاث، بالتساوي، ومُلكاً له في الشوير لهنّ، بالتساوي، فكان أغنانا جاهاً وفكراً وشهادة، وهي سترتُه نفسها طواها في سجن الرمل المركزي فجعلها مخدّته ليلقي رأسه عليها إثر سبع ساعات من محاكمته وقف فيها صلباً لم تثنِ له ركبةٌ ولم ينحنِ له ظهر، فغفا لساعة، قبل إعدامه، فما أن انطلق عليه الرصاص من اثنتي عشرة بندقيّة حتى صرخ في آن تحيا سورية، وكما شاء على مدى ربع قرن من نضاله بقي هو هو وبقى حزبه هو هو.

محمود شريح

