أزمة التحديث العربية.. كيف نتجاوز العقلانية الأداتية؟

شكّلت العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة، واحدة من أعقد الجدليات الفلسفية والفكرية التي شهدها التاريخ الإنساني الحديث، وهي لذلك اعتبرت دعوة مستمرة لإعادة النظر في الأسئلة الكبرى التي تهمّ الإنسان، وتذكّرنا بأن الفكر البشري لا يتوقف عن التطور والتجدّد، تمامًا كما أن مسيرته لا تخلو من التناقضات، في إطار صراع مستمر بين طموح الحداثة إلى بناء عالم قائم على العقل والعلم واليقين، وتمرّد ما بعد الحداثة على هذا الطموح، بسلاح الشك والتفكيك والتعددية.

إنها رحلة دائمة للبحث عن التوازن بين الإيمان بالعقلانية والاعتراف بحدودها، وبين الطموح إلى التقدم والقبول بالتعددية. من هنا، تبقى العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة شاهدًا على حيوية الفكر الإنساني وقدرته على تجاوز التحديات، حتى وإن بقيت إجاباته دائمًا نسبية، مفتوحة، وخاضعة للتأويل.

الحداثة التي انبثقت مع عصر التنوير كمفهوم، ليست مرحلة تاريخية عاشتها الحضارة الغربية، وليست منجزات مادية وتقنية فقط، بل هي نسق فكري متكامل، يتعلق بجميع جوانب الحياة والوجود الإنساني. فالحداثة التي تمثلت في الحضارة الغربية في التحول من المجتمع الديني إلى المجتمع العلماني، وفق رؤية كونية نظمتها الأفكار الفلسفية والعلمية الجديدة، سرعان ما اصطدمت بتناقضاتها الذاتية ومآزقها الوجودية. وقد جاءت ما بعد الحداثة في هذا السياق لتضع كل ذلك موضع تساؤل..

في زمن الحداثة تم القضاء على القيم والاحتفاء بما هو مادي، وتغييب الجانب الروحي وتهميشه لصالح النزعة المادية، لأن العقل الأداتي جعل الإنسان مغتربًا في مجتمعات رأسمالية صناعية. ونتيجة لذلك، تحول الإنسان إلى كائن مقيّد ضمن نظام أفقده حريته وفاعليته داخل المجتمع.

المجتمعات العربية والحداثة

عانت المجتمعات العربية من “تحديث بلا حداثة”، ومنذ بدء المشروعات الحضارية العربية في القرن التاسع عشر ما زالت المجتمعات العربية بتعدّدها “تردّد شعارات حادة من دون فهم مضامينها”، ما أصاب المجتمعات العربية بما وصفه الباحثان التونسيان فتحي التريكي ورشيدة التريكي، في كتابهما المشترك “فلسفة الحداثة” بـ “الاستلاب الحضاري” و”التحديث المقلد” والتبعية الفكرية. لقد “بنينا المصانع لكننا حافظنا على العقلية القبَلية في إدارتها”؛ كما أننا “أخذنا منتجات الغرب التقنية ورفضنا فلسفة الحرية التي أنتجتها”.

كانت هناك ثلاث قوى تتصارع في المجتمعات العربية، هي:

– التيار التغريبي: ويتمثل في الداعين إلى القطيعة المعرفية الكاملة مع التراث.

– التيار الأصولي: ويتمثل في رافضي الحداثة جملة وتفصيلاً، ممن يقفون أمامها موقف العدو الذي لا يسمح بها ويجهضها دائمًا ويعمل على تشويهها في المجتمع.

– التيار الإصلاحي: ويتمثل في محاولة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحداثة والهوية الحضارية، لا سيما المراحل الحضارية المضيئة في الحضارة العربية.

تعدّ سيادة العقل الأداتي في المجتمعات العربية أحد أسباب فشل الحداثة وتراجعها، فملخّص “العقل الأداتي” هو تحويل العقل من أداة للتحرر والتأمل إلى أداة للسيطرة والتقنية، فيصبح العقل خاضعًا لمنطق الأداء التقني دون التفكير والإبداع، ليصير العقل العربي أحد التحديات المركزية التي تواجهها الحداثة؛ فالعقل الأداتي المنتشر في المجتمعات العربية جعل من التقدم التقني وتلبية الاحتياجات الاقتصادية غاية وليس وسيلة للحياة الإنسانية، فاختُزل الإنسان إلى موضوع قابل للتحكم والتوجيه، ما أفقده معناه الإنساني.

إن سيادة الحداثة المقلدة دون الحداثة الحقيقة، كانت سببًا من أسباب ظهور سيادة “العقل الأداتي” في المجتمعات العربية، لا سيما وأن عمليات النهضة العربية تركزت على التحديث دون الحداثة. وتحولت التأثيرات السلبية للعقل الأداتي، ومنها فقدان المعنى، حوّل كل شيء إلى “مجرد وسيلة لغاية خارجية”؛ مهددة الهوية الثقافية لأنه يفرض نمطًا واحدًا ذا طابع مادي للتفكير والحياة.

ولكن ما هي حلول العقل العربي لمواجهة إشكالية “العقل الأداتي”؟:

– ربط العقل بالقيم الإنسانية، وتأكيد أن العقل يجب أن يخدم الإنسان وليس العكس.

– التركيز على العقل التواصلي، بحيث يصبح العقل أداة للحوار والتفاهم والحوار بدلاً من محاولات السيطرة وفرض الهيمنة.

– فصل العقل عن الاستخدامات الأيديولوجية، لا سيما تلك التي تجمّده في الماضي.

– الانفتاح على النقاط المضيئة في التراث، والجمع بين التراث والحداثة حتى لا تفقد الحداثة جذورها الإنسانية وتتحول إلى عملية تحديث.

ها برماس ونقيض “العقل الأداتي”

انتقد الفيلسوف الألماني يورغن ها برماس “العقل الأداتي” وتناول موضوع الحداثة بشكل عميق، حيث قام بتطوير نظريته حول الفعل التواصلي التي هدفت إلى تجاوز العقلانية الأداتية. من خلال نقده لهذه العقلانية، ومن أجل بناء مشروع حداثي سعى هاب رماس إلى تحسين التواصل البشري وتعزيز الفهم المتبادل بين أفراد المجتمع. إن معايشة ها برماس لمجهودات التحديث في ألمانيا ولإعادة بناء مجال عمومي يسترشد بالعقلانية، دفعته إلى صياغة “نظرية في الحداثة” لما سماه بـ “العقل التواصلي”.

ورغم دفاعه عن الحداثة، لم يتردد ها برماس في انتقاد الحضارة الحديثة، لأنها ركزت بشكل مفرط على التكنولوجيا، وأهملت التأمّل والتواصل بين الناس. حيث أضحت التقنية أداة للتحكم، كما أدى التعويل الأعمى على العقل الأداتي إلى عدة خيبات متكررة، عاشها الإنسان المعاصر.

إن هيمنة العقل الأداتي أفرزت لنا إنسانًا استهلاكيًا بلا حدود، مما أدى إلى انحسار القيم الإنسانية وصعود ثقافة الاستهلاك بشكل مفرط. في مقابل هذا التوجه، دعا ها برماس إلى بناء “عقل تواصلي”، معتبرًا أنّ نقد ما بعد الحداثة يفتقر إلى العقلانية، بل ورأى أن هؤلاء الفلاسفة يتبنون موقفًا فوضويًا لأنهم رفضوا الحداثة. وعلى عكسهم، لم يكتف ها برماس بالنقد، بل انتقل إلى البناء، وبالتالي دافع بقوة عن استمرارية مشروعه الحداثوي.

يؤكد ها برماس على العقلانية التواصلية كمقترح بديل عن العقل الأداتي. فقد كان يؤكّد، في كل كتاباته، على أنه بالرغم مما يمكن توجيهه من نقد للحداثة وللعقلانية، وبالرغم من بعض النتائج التراجيدية التي ولدتها العقلانية التقنية، فإنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، التخلّي عن العقل أو الدعوة إلى التخلّص منه. وفي النقاش العقلاني الحرّ داخل الفضاء العمومي يمكّن الأفراد من مناقشة قضاياهم بكل حرية، دون تدخّل السلطة والمال، مما يساهم في الوصول إلى توافقات ديمقراطية عادلة. فالحداثة لا تحتاج إلى تجاوز أو رفض، بل إلى إصلاح يركز على تعزيز قيم التواصل الحر والتفاعل الاجتماعي، مما يسمح بتجاوز الأزمات التي واجهتها وتواجهها الحداثة عبر تاريخها.

نخلص أخيرًا إلى أنّه رغم التطوّر التقني، والضجيج المستمر للحياة الرقمية، لم تستطع هذه الأدوات أن تسدّ الفراغ الداخلي الذي يشعر به الكثيرون. فالصراع لم يعد خارجيًا فحسب، بل هو صراع داخلي مرير، تعجز ضوضاء الحياة المعاصرة عن إسكاته أو مداواته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *