دولة الحقوق العامة

تجبرنا حادثة إتهام الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ومن ثم محاكمته والحكم عليه، وأقول «تجبرنا» على المقارنة، بين نماذج الحوكمة  في الكيانات السورية، وبين الأنموذج الحوكمي المعرفي للتجربة العالمانية في العالم، من حيث تكريس الحقوق العامة، كفاعل عملي موجود وضاغط ضد الخروج عن الدستور، حيث تبدو هذه الحقوق كضابط أخلاقي، لمن يتولون القيادة في أي بلد من البلدان، وأيضاً كشرط ضروري لفلاح الاجتماع البشري، المعتمد على المساواة، إن كان أمام القانون وهو مرجع أخير للتقييم، أو أمام القيم العليا التي تربي «الدولة» أفراد مجتمعها عليها، كأفراد اعتباريون، لهم الحق في الاحتكام للقانون، رفضاً لسياسة الإفلات من العقاب بحجج استثنائية المكانة، أو لضرورة الخروج عن القانون لأسباب «مقنعة» ومقنّعة، تسحب البساط الوجداني/ الحقوقي من تحت أقدام السلطة المستثناة، التي تحول صلاحيات الدستور والقوانين الناشئة عنه إلى أكذوبة معلنة، يدفع الناس ثمنها طيلة المدد التي تستمر فيها هكذا سلطة، والمدد اللازمة لمحو آثارها، التي هي ذاتها تتحول إلى سابقة، يكررها كل من تبوأ منصب في «دولة»، يستطيع فيها تجاوز الحقوق العامة لأي سبب، مما يقضي إلى تفريغ الدولة من معناها عاجلاً أم آجلاً.

في كيانات الأمة السورية، لاحظ الجميع مآل، الاجتماع البشري الفوضوي، بمعنى لم تستطع أية «دولة» فيه تنظيمه عبر تثبيت الحقوق العامة فعلياً وعلى أرض الواقع، فانفجرت هذه التجمعات السكانية، حقداً وطائفية وقمع، وفشل اقتصادي ودفاعي، مع انهيار اجتماعي لا تستطيع أية دولة القيام دون تماسك مجتمعي ولو في الحد الأدنى، وهذا الحد الأدنى نفسه يعتبر قنبلة موقوتة، إذا لم يتطور ويدافع عن الحقوق العامة.

خارج المساواة أمام المرجعية العامة من مصالح وقوانين تنظمها، لا يوجد دولة مهما كانت تسميتها، ومهما كانت غلبتها وشوكتها قوية وجبارة، فاستحقاقات الدولة التي يجب أن تؤديها للداخل والخارج، تنطلق من الأرضية الصلبة التي يجب أن تقف عليها الحوكمة، وإلا شرشحة تحت عناوين الخصوصية المحلية، والاعتراف، بأقليات وأكثريات تثقب هذه الأرضية التي تعتمد على المساواة أولاً، ومن ثم تغرقها في وحول الفاقة، التي تشتمل على جميع أنواع النشاط البشري، إذ لا تكفي الشوكة والغلبة، لممارسة الصواب الحوكمي، المشروط بالعدالة والحرية والارتقاء، وعدم الإفلات من العقاب، فالعدالة عمياء، لا ترى أي استثناء لأي شخص مهما كانت مكانته، ودون الأخذ باعتبارات بهلوانية كالمؤامرات الداخلية والخارجية، أو المكانة الشخصية الاستثنائية وتقديسها، فالحقوق العامة هي من يصون الدولة إذا كانت دولة، وأقل من هذا الاعتبار ينفي على الدولة صفتها، وينفي صدقها الأخلاقي في إدارة المجتمع، لأنه في المقام الأخير والنهائي، سيدفع المجتمع ( المكان وناسه) الثمن، مضاعفاً مئات المرات.

التخلف تدقيقاً، هو تطنيش الحقوق العامة، وحصرها في واجبات تتمدد وتتقلص تعسفياً، مثل الضرائب والخدمة العسكرية، وطاعة ولي الأمر، وعدم خدش الحياء العام، وإلى ما هنالك من مظاهر حضور الدولة كمحتكر للعنف، وليس حدوثها كمسؤولة على إدارة المجتمع وإمكانياته، وهذا في حد ذاته فشل عمومي تراكمي، فليس «لدولة» نكصت عن حماية وصيانة الحقوق العامة وتوسعتها، أن تعود لجادة الصواب الحقوقي، فالخراب الذي أحدثته، غير قابل للعكس في وجودها، ولن تستطيع إعادة إحداث دولة بشروطها، حيث خطاياها السابقة تصبح قابلة للمحاسبة بوجود الحقوق العامة المفعلة والمرعية، وهذا ما لا تقبله «دولة» تدعي أنها دولة. لتدخل هذه البلدان في دوامة لولبية إلى الأسفل، في تأقلم إجباري مع الخضوعية العامة التي تنتج الفاقة، بدلاً من بلدان تُحترم فيه الإمكانيات، وتترك للقيام بحرة لولبية ارتقائية إلى الأعلى.

هل يصدق هؤلاء أصحاب الدولة الواهية، الشعارات والمشاريع التي يطلقونها في الإعلان والإعلام وحتى عبر الشائعات، بالطبع لا، وإذا لم يصدقها، الاجتماع البشري موضوع “الدولة” وحوكمتها، فهم معرضون للتخوين والتثريب وعدم الحماية، حيث تبدو الدولة على حقيقتها، ولكن لا محاسبة، وإفلات من العقاب، نتيجة تغلب العنف المحتكر، على الحقوق العامة، وهنا تبرز المشكلة التربوية الكبرى، إذ يقاد الاجتماع البشري، إلى الهزيمة تلو الهزيمة، إبتداءً من توزيع الثروة وليس إنتهاء بمشكلة المياه و أمثالها، التي هي من إختصاص «دولة»، وليست من إختصاص المجعجعين من مولاة ومعارضة، ويجب أن تكون هناك محاسبة على الوقوع بها، ناهيك عن المحاسبة لعدم إيجاد حل. والمحاسبة هنا منوطة بالحقوق العامة المفعلة، وفي عدم تفعيلها يستجدي «المواطن» ساعة كهرباء، أو تنكة ماء، لتهطل عليه المكرمات التي لا يعرف طريقاً للاستفادة منها.

الحقوق العامة المتساوية للجميع، والمفعلة للجميع، هي الطريق الصحيح لحدوث الدولة، وغير ذلك ولو بفوارق بسيطة، لن يجعل أي كيان حوكمي «دولة»، بمعنى إدارة الاجتماع البشري كي يتحول إلى مجتمع بالمعنى المعرفي كارتقاء عملي، في سبيل إدارة الإمكانيات وحصد محصولها، وتوظيفه في آلية الإرتقاء الإنساني، بحيث يمكن “للدولة” أن تكون مفهومة، ويمكن التفاهم معها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *