قطع الماء عن الأردن من خرق وادي عربة إلى هندسة الهيمنة الصهيونية الشاملة

حين يصبح الماء لغة السلطة

لم يكن القرار الإسرائيلي الأخير بقطع أو تقليص إمدادات المياه عن الأردن مجرد خلاف تقني أو ظرف طارئ فرضته سنوات الجفاف، بل شكّل لحظة كاشفة لطبيعة النظام الإقليمي الذي سعت إسرائيل إلى بنائه منذ توقيع اتفاقيات السلام مع الدول العربية. فهذا القرار، الذي ينتهك صراحة التزامات اتفاق وادي عربة لعام 1994، يعيد طرح سؤال جوهري: أيّ سلام هذا الذي يُستخدم فيه الماء، أحد أبسط حقوق الحياة، كأداة ابتزاز سياسي؟

إن ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن مسار التطبيع العربي الأوسع، ولا عن التحولات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، وفي مقدمتها تعزيز السيطرة على جبل الشيخ وبناء قاعدة عسكرية استراتيجية عليه، بما يحوّل الموارد الطبيعية والجغرافيا العليا إلى عناصر متكاملة في منظومة هيمنة واحدة.

وادي عربة… اتفاق سلام أم عقد تبعية مائية؟

نصّ الملحق الثاني (المياه) من اتفاقية السلام الأردنية–الإسرائيلية على التزام إسرائيل بتزويد الأردن بحوالي 50 مليون متر مكعب سنوياً من مياه بحيرة طبريا المحتلة، وبسعر رمزي يقارب سنتاً واحداً للمتر المكعب[1]. وقد قُدّم هذا البند حينها بوصفه أحد «ثمار السلام»، ودليلاً على التعاون وحسن الجوار.

غير أن البنية القانونية والسياسية للاتفاق كشفت منذ البداية اختلالاً جوهرياً:

ـ مصدر المياه يقع تحت سيطرة احتلال عسكري، لا تحت سيادة مشتركة.

ـ آليات التحكيم والتنفيذ تخضع لموازين القوة لا لمبدأ الندية.

ـ الأردن تحوّل فعلياً إلى دولة معتمدة مائياً على إرادة سياسية إسرائيلية.

ومع القرار الأخير بقطع المياه أو تقييدها، يتبيّن أن الاتفاق لم يكن ضمانة، بل أداة ضبط سلوك سياسي طويل الأمد.

 خرق قانوني صريح للقانون الدولي للمياه

من منظور القانون الدولي، يشكّل السلوك الإسرائيلي انتهاكاً واضحاً لعدة مرجعيات قانونية:

1. اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية (1997)، التي تنص على مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، وعدم إلحاق ضرر ذي شأن بدول المجرى المائي [2].

2. مبدأ الوفاء بالمعاهدات (Pacta Sunt Servanda)، أحد أعمدة القانون الدولي العام، والذي يُلزم الدول باحترام الاتفاقيات الموقعة بحسن نية[3].

3. اعتبار المياه حقاً من حقوق الإنسان وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2010، ما يجعل قطعها أو تسييسها فعلاً عقابياً جماعياً[4].

لكن إسرائيل، كما في سجلّها التاريخي مع القرارات الدولية، تتعامل مع القانون بوصفه أداة انتقائية، تُستدعى حين يخدم الهيمنة، وتُهمَل حين يقيّدها.

 الماء ضمن عقيدة الأمن القومي الصهيوني

منذ قيام الكيان الصهيوني، شكّلت المياه جزءاً بنيوياً من استراتيجيته التوسعية: من السيطرة على روافد نهر الأردن، إلى احتلال الجولان السوري، وصولاً إلى التحكم بالأحواض الجوفية في الضفة الغربية.

في هذا السياق، لا يمكن فصل قرار قطع المياه عن الأردن عن:

تعزيز السيطرة الإسرائيلية على جبل الشيخ، بما يمثّله من تفوق مائي ومناخي واستخباراتي وبناء قاعدة عسكرية استراتيجية تتيح مراقبة جنوب سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة، وربط الأمن العسكري بالتحكم بالموارد الطبيعية[5].

هنا، تتحوّل الجغرافيا المرتفعة إلى منصة هيمنة شاملة: من يسيطر على القمم، يسيطر على الماء، والمعلومة، والنار.

التطبيع كنظام هيمنة لا كمسار سلام

ما يجري مع الأردن يجب قراءته ضمن مسار التطبيع العربي الأوسع، الذي لم يؤدِّ إلى تقليص العدوانية الإسرائيلية، بل إلى تحريرها من أي كلفة سياسية.

فالتطبيع، كما يتبلور اليوم، ليس سلسلة اتفاقيات منفصلة، بل نظام هيمنة متكامل يقوم على:تفكيك مفهوم الصراع وتحويله إلى «خلافات تقنية» وربط الأمن المائي والغذائي والطاقة بإسرائيل وأيضا تحويل «السلام» إلى غطاء لإعادة إنتاج التبعية البنيوية، حيث تصبح الدول المطبِّعة رهينة لشبكات إمداد تتحكم بها إسرائيل، لا شركاء في منظومة إقليمية متوازنة.

في هذا الإطار، لا يبدو قطع المياه عن الأردن خروجاً عن مسار التطبيع، بل تجسيداً لوظيفته الحقيقية: ضبط الإقليم عبر أدوات الحياة اليومية، لا عبر الحرب فقط.

الأردن بين ضيق الجغرافيا وضغط السياسة

يمثّل الأردن حالة نموذجية لهشاشة «السلام المائي» مع إسرائيل. فالمملكة، التي تُعد من أفقر دول العالم مائياً، وُضعت منذ وادي عربة في معادلة قاسية: قبول الاعتماد المائي مقابل استقرار سياسي مؤقّت.

غير أن السنوات اللاحقة أظهرت حدود هذه المعادلة:

المشاريع البديلة، كتحلية مياه البحر الأحمر أو التعاون العربي–العربي، جرى تعطيلها أو إفراغها من مضمونها.

الاعتماد على المياه الإسرائيلية تحوّل إلى أداة ضغط غير معلنة، تُستخدم عند كل توتر سياسي.

القرار السيادي الأردني بات محكوماً بسقف «عدم إغضاب المورّد».

وهكذا، يصبح الماء أداة لإعادة هندسة المجال السياسي الداخلي، لا مجرد مورد طبيعي.

من فلسطين إلى الأردن… وحدة الأداة ووحدة الهدف

ما يتعرض له الأردن اليوم ليس استثناءً، بل امتداد مباشر لما تمارسه إسرائيل منذ عقود بحق الفلسطينيين:من حرمان غزة من المياه الصالحة للشرب والسيطرة على أكثر من 80% من موارد الضفة الغربية المائية وبالتالي استخدام التصاريح والربط بالشبكة الإسرائيلية كأداة إخضاع يومي.

الفارق الوحيد أن الأردن دولة موقّعة على «اتفاق سلام»، ما يكشف بوضوح زيف الادعاء القائل إن التطبيع يحمي الحقوق أو يضمن الاستقرار. فالأداة واحدة، والهدف واحد: تكريس تفوق دائم، وتحويل المحيط إلى فضاء تابع.

 جبل الشيخ… من عقدة جغرافية إلى قلب الهيمنة الإقليمية

إن الربط بين قطع المياه عن الأردن وتعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي في جبل الشيخ ليس ربطاً خطابياً، بل تحليلاً بنيوياً.

فجبل الشيخ يشكّل:

خزاناً مائياً استراتيجياً يغذي حوض نهر الأردن ومنصة رصد وسيطرة نارية على ثلاث ساحات: سوريا، لبنان، والأردن وأيضا نقطة ارتكاز لربط الأمن المائي بالأمن العسكري والاستخباراتي وان بناء قاعدة عسكرية دائمة عليه يعني أن إسرائيل لا تدير صراعاً حدودياً، بل تؤسس لنظام سيطرة إقليمي طويل الأمد، تكون فيه الموارد الطبيعية جزءاً من منظومة الردع والابتزاز.

حين يسقط قناع «السلام»

يكشف قرار قطع المياه عن الأردن حقيقة طالما جرى التعمية عليها: أن ما سُمّي سلاماً لم يكن سوى إعادة توزيع للقوة، لا إنهاءً للصراع. وأن التطبيع لم يحدّ من الهيمنة، بل وفّر لها بيئة قانونية وسياسية أكثر أماناً.

في هذا السياق، يصبح الدفاع عن الحق في الماء دفاعاً عن السيادة، وعن إعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل خارج منطق التبعية. فالماء، حين يُستخدم كسلاح، يكشف أن المعركة لم تنتقل إلى ما بعد الحرب، بل دخلت طوراً أكثر خطورة: طور السيطرة على شروط الحياة نفسها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *