لبنان الجمهورية: فساد الصناعة السياسية الفرنسية

لبنان يشبه كلَّ شيءٍ إلا الدولة والوطن. هو الكيان الذي أراده المستعمر دولةً، وأمَّن له في مرحلةٍ سابقة قدراً محدوداً من الحماية الأمنية والاجتماعية، فيما كان في الجوهر يجمع داخله تناقضات فكرية غريبة عن طبيعة شعبه وفطرته. دسَّ المستعمر السموم في العقول، وعطَّل مفاعيل الحياة التفاعلية الطبيعية، فحوَّل ابناء المجتمع الواحد، إلى مجموعاتٍ متنافرةٍ متقاتلة، عبر إنشاء الأحزاب المِلِّيّة التي لم يكن مجرد داعمٍ لها، بل كان منشئها وراعيها والمحرِّض الأساسي على تناقضاتها وصراعاتها.

الجمهورية التي افتعلها الانتداب الفرنسي لم تكن مشروع دولة، بل توليفةً فاشلة منذ لحظة ولادتها. فقد أراد المستعمر قيام دولة على منطقة جغرافية اسمها لبنان، وسعى في الوقت نفسه إلى صناعة شعبٍ يؤمن بأنه شعبٌ منعزلٌ ومنقطعٌ عن محيطه القومي. غير أنّ هذه الفكرة اصطدمت بواقعٍ اجتماعي وثقافي طبيعي، لم يتقبّل هذا الانفصال القسري، ما دفع المستعمر إلى الاستثمار في العصبية المذهبية المتولدة منذ الحقبة العثمانية، والتي عمل الانتداب الفرنسي على رعايتها وتغذيتها منذ أمدٍ بعيد، إلى الحد الذي أطلقت فيه هذه العصبية على فرنسا صفة «الأم الحنونة».

وقد تصدّت هذه العصبية المذهبية للدفاع عن فكرة إقامة الجمهورية في لبنان، مدفوعةً باندفاعٍ طائفيٍّ حاد، إلا أن هذا الاندفاع لم يلقَ تجاوباً شعبياً واسعاً من أبناء لبنان، الذين رفضوا الفكرة الانعزالية وفكرة الدولة المنسلخة عن محيطها القومي الطبيعي. عندها، لجأ المحتل الفرنسي إلى التعاون مع المحتل الإنكليزي، من أجل جمع عملائهما في لبنان، ودفعهم إلى القبول بالجمهورية اللبنانية بوصفها أمراً واقعاً.

هكذا وُلدت الكذبة الكبرى التي جرى تسويقها على أنها دولة وشعب وجغرافيا وإرادة مذاهب متحالفة في إطار دولة واحدة، وافتُعلت على أنها نتاج إرادةٍ شعبيةٍ موحَّدة. غير أن الواقع كان نقيض ذلك تماماً، إذ عاشت هذه المجموعات المذهبية في حالة تخاصمٍ وتقاتلٍ مستمرَّين على مدى عقود طويلة، وما من مذهبٍ إلا واصطدم بالمذهب الآخر، فيما بقيت العصبية المذهبية عميقة الجذور في نفوس أبنائها، مع تباينات حادّة في المواقف، وأشكال متفاوتة من التشدّد واللين داخل كل مذهب.

من هنا، تبدو هذه الجمهورية المفتعلة كيانا هش البنية، سرعان ما تتفكك بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى الأمنية، عند كل استحقاقٍ مصيري، أو عند كل مشروعٍ سياسيٍّ أجنبيٍّ يستهدف البلاد.

وفي قراءة الوقائع التاريخية، يظهر بوضوح كيف رفض القسم الأكبر من السوريين، سكان لبنان، الهجرةَ اليهودية إلى فلسطين، وعملوا على مقاومتها، في مقابل انخراط مذهبٍ معيّن في تأييد الهجرة والاحتلال اليهودي. كما يتبدّى الاصطفاف المذهبي الحاد بين مؤيد للكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وبين رافضٍ له بحجة «لبنان الضعيف»، وبذريعة أن بقاء هذا الضعف يشكّل قوة مدخلاً إلى الحياد وإنقاذ لبنان.

وتفاقم هذا الانقسام منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حين تقاتلت المذاهب بين مؤيد للمسألة الفلسطينية ومحارب لها، وصولاً إلى اجتياح عام 1982، حيث واجهت غالبية المذاهب الاحتلال اليهودي، في وقت وافقت فيه حزبية سياسية مذهبية على الاجتياح، وقدّمت له العون المباشر.

شكّل هذا الاجتياح محطة مفصلية، إذ أيقظ صحوة وطنية وأعاد الحياة الى الشعور القومي لدى غالبية السوريين اللبنانيين، في مقابل بقاء مجموعةٍ مذهبيةٍ سياسية خارج هذا الوجدان، تغرِّد بعيداً عن منطق المواجهة والمصلحة الوطنية العليا.

هذا الانقسام العميق ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج فكرةٍ متحجرة تقوم على وهم قدرة طائفةٍ بعينها على إنشاء كيانٍ سياسيٍّ مستقل، غير معنيٍّ بما يجري في محيطه، وكأن هذه الطائفة كيان منزَّه عن الواقع وعن طبيعة الصراع وأهداف العدو اليهودي.

في العام الماضي، تصدّت المقاومة لاجتياحٍ جديد، وأوقفت تقدّمه، وجنّبت لبنان احتلالاً واسعاً ومذلّاً. غير أنّ القوى ذاتها المنفصلة عن الواقع اندفعت لمحاربة المقاومة وأحزابها، بدل أن تتصدّى للعدو اليهودي، لو كانت فعلاً تؤمن بأن لبنان وطنٌ نهائيٌّ لجميع أبنائه، على مساحة 10452 كلم².

اليوم، يتكرّر المشهد نفسه. فـ«دولة» العدو، والدول الكبرى الداعمة له، تعيد إنتاج تجربة فرنسا وبريطانيا عند تأسيس لبنان. إذ تحشد الولايات المتحدة الأمريكانية حلفاءها وأدواتها في لبنان والوطن السوري، وفي العالم العربي والدولي، لتوحيد التناقضات المذهبية في مواجهة المقاومة، ودفعها نحو الانصياع للشروط اليهودية والأمريكانية، تحت بريق كذبةٍ جديدة تُسمّى «الدولة اللبنانية»، فيما جوهر هذا الكيان الدولة يبقى متفككاً، ويستند إلى ائتلافٍ مذهبي يسعى المستعمر إلى تدعيمه بقوة نار الاحتلال وبالتقديمات الاقتصادية الوهمية.

إن كان للبنان أن يكون دولةً وجمهورية، فلا يمكن أن تُبنى على المذهبية، ولا على مصافحة العدو اليهودي التوسعي، ولا السكوت عن قتل شعبها، ولا على التنازل عن الأرض والسيادة، ولا على الانبطاح أمام العدو. ولا يمكن أن تقوم دولة حقيقية على تسفيه المواقف الوطنية، أو تشويه الكرامة الوطنية، أو شيطنة الشهداء والمقاومين، وحق الدفاع المشروع عن الوجود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *