سوريا بين التفكك الوطني ومظلومية الأقليات؛ قراءة في ضوء فكر أنطون سعادة

لم تعد الأزمة السورية أزمة سلطة أو صراع نفوذ فحسب، بل تحوّلت إلى أزمة كيان ومعنى. فبعد سنوات طويلة من العنف والانقسام والتدخلات الخارجية، بات المجتمع السوري يرزح تحت ثقل الخوف المتبادل، وتراجعت فكرة الوطن لصالح الهويات الصغرى، حيث لم يعد المواطن يرى في الدولة مظلة جامعة، بل سلطة غائبة أو عاجزة، الأمر الذي أعاد إنتاج الطائفية بوصفها ملاذاً نفسياً واجتماعياً، لا خياراً فكرياً واعياً.

في هذا السياق، تبرز مسألة الأقليات بوصفها إحدى أكثر القضايا تعقيداً وحساسية. فمظلومية الأقليات في سوريا ليست وهماً سياسياً ولا دعاية ظرفية، بل نتيجة تاريخ طويل من الإقصاء، وانعدام الثقة، وفشل الدولة الوطنية في ترسيخ مفهوم المواطنة المتساوية. غير أن هذه المظلومية لم تنشأ من طبيعة الأقليات نفسها، بل من تحويلها قسراً إلى كيانات مغلقة، تُستدعى عند الخطر، وتُهمَّش عند الاستقرار.

لقد أثبتت التجربة السورية أن غياب الدولة العادلة لا يفتح الباب أمام الحرية، بل أمام الغرائز الجماعية، حيث يتحوّل الخوف إلى هوية، والطائفة إلى مشروع حماية، والانتماء الوطني إلى شعار فارغ. وفي ظل هذا الواقع، وجدت الأقليات نفسها بين خيارين كلاهما مرّ: إما الذوبان في خطاب أكثرية لا تطمئن إليه، أو البحث عن حماية خارجية تُفاقم العزلة وتُعمّق الشرخ الوطني.

غير أن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في وجود أقليات أو أكثريات، بل في غياب الدولة القومية المدنية التي تساوي بين المواطنين على أساس الانتماء إلى الأمة، لا إلى الطائفة أو العرق أو المذهب. وهذا ما تنبّه إليه أنطون سعادة مبكراً، حين اعتبر أن الطائفية ليست تعبيراً عن التنوّع، بل عن فشل الدولة، وأن الأقليات تُظلَم حين تُختزل إلى طوائف، وتُحمى حين تُدمج في إطار قومي جامع.

إن الحلول المطروحة اليوم، من فيدراليات طائفية، أو أنظمة محاصصة، أو حكم أكثرية عددية، لا تعالج جوهر الأزمة، بل تعيد إنتاجها بأشكال جديدة. فالفيدرالية المبنية على أسس طائفية لا تحمي الأقليات، بل تحبسها داخل حدود الخوف، بينما حكم الغلبة العددية يحوّل الديمقراطية إلى أداة إقصاء، ويجعل من الدولة طرفاً في الصراع لا حكماً بين مكوّناتها. أما الاستقواء بالخارج، فهو وإن وفّر حماية مؤقتة، إلا أنه يضع مصير الجماعات في يد مشاريع لا ترى في سوريا سوى ساحة مصالح.

في مقابل هذه المسارات المأزومة، يقدّم فكر أنطون سعادة رؤية مختلفة، تقوم على مفهوم الأمة بوصفها وحدة حياة اجتماعية ـ تاريخية، لا مجموع طوائف متجاورة. فالدولة القومية الاجتماعية، كما تصوّرها سعادة، ليست دولة لون واحد ولا دين واحد، بل دولة قانون، يكون فيها الانتماء للوطن هو الأساس، والعمل والإنتاج هما معيار القيمة، لا العدد ولا الوراثة ولا الانتماء المذهبي.

في هذا الإطار، لا تعود مسألة حماية الأقليات مسألة استثناء أو ضمانات خاصة، بل نتيجة طبيعية لوجود دولة قوية وعادلة. فحين يشعر المواطن، أياً كان انتماؤه، أن حقوقه مصونة بالقانون، وأن كرامته لا تُمس بسبب هويته، تنتفي الحاجة إلى الاحتماء بالجماعة، ويصبح الوطن هو الملجأ الأول والأخير.

إن إعادة بناء سوريا لا تبدأ من تقاسم الخوف، بل من تفكيكه، ولا من إدارة التنوّع بوصفه أزمة، بل من تحويله إلى عنصر غنى في إطار وطني جامع. وهذا يتطلّب شجاعة فكرية وسياسية للانتقال من منطق الطوائف إلى منطق الأمة، ومن دولة الغلبة إلى دولة العدالة، ومن وعي الانقسام إلى وعي النهضة.

ختاماً، يمكن القول إن إنقاذ سوريا لا يكون بحماية طائفة من أخرى، ولا بتقديم الأقليات كقضية منفصلة عن الوطن، بل بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة القومية المدنية التي تحتضن الجميع دون تمييز. فالوطن الذي يحمي مواطنيه بالقانون، لا يحتاج إلى متاريس طائفية، والأمة التي تدرك ذاتها، لا تخاف من تنوّعها.

إن حماية الأقليات تبدأ حين تنتهي الطائفية،

وإن خلاص سوريا لا يكون إلا بخلاصها من الانقسام.

إبراهيم الدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *