«سويسرا الشرق» وطبخة المخلوطة وأوهام الجمهورية!

اليوتيوب اختراع رائع، يسمح لأصحاب النوستالجيات والحنين إلى الأزمنة الماضية بالعودة ومشاهدة كيف كانت الحياة في تلك الأيام التي انقضت من خلال أفلام التقطت في القرن الماضي في لبنان، بيد أنّ هذه الوسيلة المُدهشة تطلق الجّني من القمقم، إذ حين تقرأ التعليقات في ال comments تصاب بذهول وإرباك وقهر، ذلك من فداحة وسذاجة ما تقرأ في محتوى تلك التعليقات ومنها:

«رزق الله على هيديك الأيام، كنا عايشين بألف خير….»

«كانت أيام بحبوحة …»

«كنا عايشين بألف خير من الله ونلعب لعب بالمصاري … »

تعليقات من هذا النوع السَاذج والمبتذل … الطامة الكبرى تحصل حين يقول أحدهم: «انشالله يرجع لبنان متل ما كان سويسرا الشرق …»

لا يا حبيبي!  لم تكن أبدا أياما من البحبوحة ولا الازدهار ولا كانت سويسرا الشرق بتاتا، كانت كذلك ،لبعض المحظوظين بين الناس من  الإقطاع و الأثرياء اللصوص يحظون برعاية رجال الدين ولكن السواد الأعظم من الشعب كان يعاني معاناة شديدة خاصة في الأرياف والتخوم والقرى البعيدة النائية التي أهملتها الدولة ، فكلّما ابتعدت عن المتن وبيروت كلّما كان الجوع هو العنوان الأبرز، والفقر والبؤس يلتهمان الوطن وسكّانه وفقراء القرى من العمال البسطاء والفلاحين، فكان اللبناني من تلك المناطق يقضي نهاره وليله يكابد الجوع والحرمان والقرف والموت البطيء . ولمن يحبّون النوستالجيا والتاريخ تعالوا معي لأخبركم كيف كان الازدهار في منتصف القرن الماضي وكيف كان اللبناني يعيش بألف خير وبحبوحة:

في قرية تقع على مرتفع شَاهق مما يسمّى جبل لبنان كانت تعيش أسرة مؤلفة من أب وأم وأطفال في فقر شديد وعوز متواصل فلا وسيلة للارتزاق في تلك المنطقة سوى ما يسمّى بشغل (الفعالة) التي لا تتوافر دائما فكان على الأب أن ينتقل الى المناطق طلبا للارتزاق، يهبط إلى الساحل حيث يعمل مياوما في قطف الحمضيات ويغيب لأسابيع، اذ لم تكن عملية الانتقال سهلة من قريته الى بساتين الحمضيات الساحلية، بل يتطلب الأمر منه مسيرة يومين على الأقل ذهابا وإيابا، فيبقى المدّة المطلوبة لإنجاز العمل ثم يعود إلى أسرته.

 غاب الأب في واحدة من المرات وطالت غيبته ونفذت مؤونة الأسرة وباتت تتضوّر جوعا بانتظار عودته.

ولكي تسدّ رمق هؤلاء الاطفال الجائعين، كانت الأم تبحث تحت الأشجار عن بقايا ثمار متساقطة أو تنقّب في حقل عن رؤوس بطاطا غفل صاحب الرزق عن اقتلاعها وتبحث عن (السليق)والأعشاب والثمار البريّة وحتى السرقة من أرزاق جيرانها لتؤمّن لأولادها شيئا يسدّ جوع بطونهم المزمن.

في تلك الحقبة خلال أشهر المونة تحديدا كان يحضر تجار الحبوب (المكاريّة) ومعهم حبوب الحمص والفول والعدس والقمح محمّلة على الدواب قادمين من سهل البقاع، ويشرعوا في السير من قرية إلى أخرى يبيعون بضاعتهم.

أمّا طريقتهم في البيع فتكون على الشكل التالي: يتوقفون في ساحة الضيعة لساعات معينة، فتهرع القرويّات وتبدأ عملية البيع والشراء. وحين ينقضي الوقت المحدد يغادرون الى سوق قرية أخرى.

في ذاك اليوم كانت المرأة المسكينة تقف متفرّجة، تدنُو حينا وتتراجع حينا آخر عن أكياس الحبوب المعروضة على الأرض، تنظر إلى أصناف الحبوب باشتهاء غير موصوف وهي مضطربة، لا تعلم كيف تتصرف هل تستعطي أو تشتري بالدين بانتظار عودة زوجها!!!

وهب أن المكاري صاحب البضاعة رفض أن يبيعها بالدين، أو أسمعها كلاما غير لائق أو زجرها أو حتى طلب منها خدمة خسيسة تمسّ شرفها لقاء الحبوب!!

لاحظ أحد المكاريّة اضطرابها فقال لها:

تفضلي تفضلي يا ست تفضلي شوفي البضاعة …

اقتربت المسكينة من الأكياس وأخذت تتناول حفنات من الحبوب وتقلّبها بين أصابعها ثم تعيدها إلى الكيس بخفر وانكسار …

وبعد دقائق سألها المَكاري ما إذا كانت ستشتري أم لا فقالت له: ما بسترجي يا عمو بخاف ما يستووا على النار، السنة الماضية اشتريت حبوب بقوا متل الحجار …

فقال لها التّاجر انا حبوبي يستووا بربع ساعة، وقبل ما تشتري رح خليكي تجربيهم فطلب منها أن ترفع إزارها وأخذ يعبئ لها من كل صنف قبضة سخيّة ويسكبها في الإزار المنبسط أمامه حتى امتلأ ثم قال لها:

 روحي يا اختي عالبيت اسلقيهم وبحلف بشواربي أنه رح يستووا منيح وارجعي عمهلك اشتري قد ما بدك ….

هرعت المسكينة إلى المنزل فرحة بالذي تحمله غير مصدّقة أنّها تمكنت من أن تعود بوجبة طعام لأطفالها؛ حفنة من الحمص وأخرى من الفول والقمح والعدس والفاصوليا كنز سليمان بالنسبة لها، تصنع منها طبخة مخلُوطة!

 باشرت من فورها بوضعها في طنجرة على النار، وغلتها جيدا لتعدّ منها طبقا يتغدّاه اولادها.

بالطبع بعد رحيل المرأة المسكينة شدّ المكَاري الرّحال مع جماعته وتركوا ساحة القرية الى قرية أخرى وهو بخبرته الطويلة أدرك أن المرأة فقيرة لا تملك قرشا وحكما لن تعود وهو قدّم زكاة وتصرّف بشهامة مع إمراه جائعة و أولادها !!

 لا عمل أسمى في الحياة من إطعام جائع.

هذه حكاية واقعية من جمهورية سويسرا الشرق يوم كنا (نلعب لعب بالمصاري)، التي شنّفوا آذاننا يمدحون محاسنها وعظمتها ويتداولون أخبار بطولاتها  

 شعبنا المقهور راح ضحية الحراميّة منذ البداية، فيما شرائح كبيرة منه تتسوّل وتسرق وتحتال وتلجأ إلى كلّ صنوف الإنحناء والمذلّة والمهَانة حتى بالكاد تأكل صحن مخلُوطة يسدّ جوع أطفال صغار ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا لأهل شرفاء فقراء !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *