السرديات اليهودية المنهارة، ومسؤولية صياغة البدائل

الحلقة الاولى (سقوط التاريخ التوراتي)

   يتكون الخطاب اليهودي بمجالاته العامة (الصحفي والسياسي والتاريخي والثقافي)، من جملة سرديات مؤسّسة، تم صوغها بذكاء لتؤدي وظائفها. خطورتها انها قدمت الشرعية للعودة، للاحتلال ولقيام دولة الاحتلال. إضافة الى الهيمنة النفسية والفكرية خاصة على المسيحية باعتباره تاريخا سابقا لها، ووضع مفاهيم الخلاص في سياقه. تمت بهذه السردية عملية هيمنة، واحتلال للتاريخ، والعلم، والبحث. وكان تداخل التاريخي مع اللاهوتي والسياسي والأخلاقي تحت اسم تاريخ مقدس جزءا من عوامل استمرارها تعقيدات تفكيكها.


    من هذا التاريخ تم رسم تاريخ المنطقة العام، وذلك انطلاقا من التوراة. وتم تحقيبه في محطات. الاولى من عهد إبراهيم بداية التاريخ اليهودي، الى عهد الشتات. قدمت تاريخ شعب إسرائيل واباؤه وملوكه وأنبياؤه وجغرافيته. استطاعت أن تسيطر على كامل التاريخ الاستشراقي ومعاهد الابحاث الى حين بداية انهيارها. (تمت عملية الربط المحكم شعب تاريخي ودولة تاريخية/ بشعب حالي ودولة حالية). استطاعت هذه السردية ان تعيش مئات السنين وتحتل الذهن والبحث الأكاديمي بفضل الحامل الديني، لان التوراة قدمت المادة التاريخية للتأريخ الرواية الصحيحة هي رواية التوراة. لقد شكلت السجل الأوحد.
انه تاريخ الشعب شخصياته (اباء انبياء ملوك..) مساره، محطاته، احداثه، ميدانه، جغرافيته، تفاصيله وارقامه.
 تم تشكيل علم مكمل له هو علم الاثار الكتابي على يد عالم الاثار الامريكي «وليام فوكسويل اولبرايت» الذي ترأس المدرسة الاميركية للأبحاث الشرقية في القدس من عام 1919 حتى العام 1936، وسميت المدرسة فيما بعد على اسمه، وفي اسرائيل علم الاثار التوراتي على يدبنيامين مازار، وسار الى جنب اولبرايت حيث قاما بإجراء عمليات تنقيب واسعة في مجيدو وعسقلان ونابلس واريحا والخليل والقدس وبيسان   لكن ومع بداية الابحاث الاثارية العلمية والتنقيبات، بدأ علم الآثار الكتابي بالتداعي. ولم يطل الامر حتى وصل الى حد السقوط من المسرح البحثي والعلمي وشق طريقه نحو الاعلامي والسياسي. على ان تستكمل نتائج هذا السقوط في الديني وخاصة المسيحي والاسلامي. لقد بات واضحا اكتمال تداعي السرديات المكونة للخرافة. لقد بات النص التوراتي بلا أي قيمة تاريخية، بات ادبا ولاهوتا. فمنذ بداية التسعينات وحتى اليوم بات النقاش شبه مكتمل والنتيجة واضحة كان التاريخ التوراتي زيفا. لم يعد من حرج من توصيفه بأنه ماض مزيف، انه تلفيق، كذب، خرافات، تضليل، تضخيم، تناقضات. بالخلاصة محم امام سقوط كامل.


    علم الاثار قال كلمته، بسقوط التاريخ الكتابي وسقوط التوراة، يسقط ما تأسس عليهما. إسرائيل التاريخية والتوراتية وأرض الآباء والاجداد وأرض الوعد ودولة اسرائيل كلها، لم يعد لها ما يدعمها في البحث العلمي. سقطت مقولات العودة ومقولات شرعية الدولة.

   ولكن يبقى الأهم وهي السردية البديلة، ان يقوم اصحاب التاريخ الصحيح بتقديم نسختهم الصحيحة العلمية المدعمة باللقى الاثرية وصياغتها وتقديمها وكيفية ايصالها الى الوسط العلمي والاهم الى العامة للعامة. انه مشروع كبير تحرير التاريخ والخطاب والبحث العلمي.



   والأهم من هذا الأساس أصبح بالإمكان اشهار سقوط الابراهيمية المؤسسة على النص التوراتي الساقط.
وأعرض هنا لأهم الذين خاضوا في هذا النقاش والخلاصات التي يوصلوا اليها: 


 ـ توماس تومسون لاهوتي دنماركي. من أبرز أعماله
.  نشرت عام 2002 the Historicity of the Patriarchal Narratives The Quest for the Historical Abraham1974.
. The Origin Tradition of Ancient Israel.1987وغيرهاتعرض للاضطهاد والطرد من منصبه، مما اضطره إلى قبول منصب أستاذ في جامعة كوبنهاجن في الدنمارك ليتمكن من مواصلة أبحاثه.

 ـ البروفسور إسرائيل فلنكشتاين، عالم آثار إسرائيلي
The Archaeology of the Israelite Settlement, Jerusalem, 1988,

 Archaeological and Historical Aspects of Early Israel, Jerusalem, 1994
The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts, New York, وغيرها من المؤلفات

 ـ مارغرِت شتاينر عالمة آثار هولندية، كلفت بإتمام التنقيبات في منطقة القدس العالم من اشهر كتبها
 . Excavations in Jerusalem volume 1 /1990
Jerusalem from the Bronze Age to the Maccabees1996.

 ـ العالم الكبير أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب زئيف هيرتسوغ
« Beer ـ Sheba II The Early Iron Age Settlements (1984)
Excavations at Tel Michal, Israel (1989)

 ـ المؤرخ البريطاني كيث واتيلام
)1996The Invention of Ancient Israel the Silencing of Palestinian History(/
 Rhythms of Time  Reconnecting Palestine’s Past (2013)
  ـ شلومو ساند المدرس في جامعة تل أبيب
2008The Invention of the Jewish People,
،
The Invention of the Land of Israel2013

في كتابه »اختراع الشعب اليهودي«، لفت الى أن الحركة الصهيونية قد اختلقت المصطلح الديني «أرض إسرائيل»، وحولته إلى مصطلح جيو ـ  سياسي لا تعرف إلى الآن ما هي حدوده، ولا ما هي تطلعاته المستقبلية.

 هذا النقاش شمل نقد كل مكونات سردية التاريخ التوراتي، بعهد الآباء(إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ثم عهد الأنبياء (موسى وهارون ويوشع وصموئيل وغيرهم، وصولاً إلى عهد الملوك (شاول، داود، سليمان) الذين أسسوا مملكة موحدة، والمحطات، من الدخول الى مصر والخروج منها، التيه في الصحراء الدخول الى كنعان، والسبي والعودة، مملكة داود وسليمان الموحدة، ومملكتي السامرة ويهوذا، ونظرية الغزو، وألأماكن والجغرافية، وقصة معبد سليمان قصة الأسباط الاثني عشر…. والتسلسل التوراتي، الى قصة الأسباط الاثني عشر. تم اكتشاف حجم التناقض بين السرد التوراتي والاكتشافات الأثرية. كان غياب أدلة الأثرية قوية تدعمها في تلك الفترات والأحداث الكبرى والتواريخ المذكورة بالرواية، كل هذه الوقائع التاريخية لم تدعمها الآثار، فخسرت مصداقيتها.
ولا ننسى جملة بحاثة خاضوا في هذا النقاش لا يتسع المجال لذكرهم فاكتفينا بأشهرهم.

    الخلاصة جاءت على لسان هرتسوغ:

 
  «بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان». ويضيف «من المعتقد أن سكان العالم كله، لا مواطني إسرائيل وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات في أرض إسرائيل [فلسطين] منذ مدة من الزمن».« يبدو أنه من الصعب قبول ذلك عند كثيرين، لكن من الواضح للعلماء والباحثين اليوم أن» شعب إسرائيل« لم يُقم في مصر، ولم يَتُه في الصحراء، ولم يحتل الأرض من خلال حملة عسكرية، ولم يستوطنها من خلال أسباطه الاثني عشر. والأصعب من ذلك أيضاً هو هضم الحقيقة التي تتضح، رويداً رويداً، بأنَّ مملكة داود وسليمان الموحدة التي وصفتها التوراة على أنها دولة عظمى إقليمية، كانت في أقصى الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إضافةً إلى ذلك، يُتوقع عدم ارتياح كل من سيضطر إلى العيش مع المعلومة القائلة أنّ» يهوه إله إسرائيل كان متزوجاً، وأن الدين الإسرائيلي القديم تبنّى التوحيد فقط في أواخر عهد المملكة وليس على جبل سيناء، «وجد الباحثون صعوبة في الاتفاق بينهم على الفترة الأثرية التي تتوافق مع عهد الآباء، متى عاش إبراهيم وإسحق ويعقوب؟ وأن قصصها خيالية وفيما، كما أن لدى الأكثرية قناعة بأن موسى ما وجد أبدا أساسا.


  ويعلن عالم الآثار وليم ديفر  ـ  من جامعة اريزونا  ـ  أن موسى شخصية أسطورية، تضاربت الأقوال في الدخول والخروج من مصر، وادي النيل. لم يوجد دليل علمي من الآثار والحفريات على وجود شخصيات إبراهام، واسحاق ويعقوب والأسباط. ولا يوجد دليل أثري يؤيد أنه كان هناك خروجاً من مصر أو دخولاً ـ  وليس هناك ما يثبت وجود مملكة دواد وسليمان». وعالِم الآثار إسرائيل فنكلشتاين «إذا لم يكن هناك آباء ولا خروج ولا غزو لكنعان ولا حكمَ ملكيًّا ناجحًا تحت قيادة داود وسليمان، فهل يمكننا أن نثبت عندئذٍ أن إسرائيل التوراتيّة المبكرة، كما جاء وصفها في أسفار موسى الخمسة، وأسفار يشوع والقضاة وصموئيل، كان لها وجود من الأصل؟».


  ونذكر أيضا التحقيقات التالية

  • تحقيق مجلة «التايم» (تاريخ 5/12/95) بعنوان «هل التوراة حقيقة ام خيال»،
  • مجلة «لو نوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية (عدد 18 ـ  24/7/2002) نشرت تحقيقاً بعنوان «الطوفان، ابراهيم، موسى، الخروج التوراة، الحقيقة والاسطورة الاكتشافات الجديدة لعلم الآثار»، كتبه «فيكتور سيجيلمان، جان لوك بوتيه، صوفيا لوران». نحو سبعة كتب نشرت في فرنسا منذ 1998 حول المضمون نفسه وملخصه إن علم الآثار في فلسطين لم يؤكد ما جاء في اسفار التوراة، وبالتالي فان «ارض الميعاد» الكنعانية التي تفيض «لبناً وعسلاً» (والحقيقة لباناً وعسلاً)، ليست في فلسطين، وعليه فالأسطورة الصهيونية عن أرض الاجداد باطلة.

    الخلاصة: كان هدف السردية واضحا إزالة صفة الاحتلال عن الوجود والعودة والدولة. في طريقها لحماية سرديتها بنت مفاهيم متعددة: ارض الإباء، ارض إسرائيل، ارض إسرائيل التاريخية، اسرائيل التوراتية، ارض الميعاد. كلها مفاهيم باطلة. بسقوط التاريخ سقطت هذه المفاهيم جميعها سقوطا واحدا. كان سقوطا علم الاثار التوراتي مريعا بعد عقود من اثار موهومة وحقائق باطلة. فتح هذا الباب امام السردية البديلة التي أصبحت صياغتها وتقديمها مسألة ملحة جدا وملقاة على كاهل اهل الشأن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *