سعاده في مواجهة الخيانة الخيانة الفكرية والوصولية ـ الحلقة الخامسة (12/6)

تتجلى خطورة الخيانة الفكرية عندما تتحول من انحراف فردي إلى مؤامرة منظمة تهدف إلى تقويض أسس النظام من الداخل. ففي تحليله لخيانة نعمة ثابت، يكشف سعاده أن هذه الخيانة لم تكن مجرد ارتداد عن المبادئ، بل كانت تتويجًا لمسار خبيث، حيث أقدم الخونة على «كسر أحد هذه المبادئ الأساسية البسيطة كمبدأ النظام ومبدأ وحدة السلطة، وإدخال الشكوك في النفوس وزعزعة الإيمان بالتآمر على المعلم واليقين به.»[1]

وقد تجسّد الانحراف الفكري الجوهري لثابت في خطابه الشهير «الواقع اللبناني» الذي ألقاه في بعقلين عام 1944، والذي حوّل فيه العمل الحزبي من مشروع قومي تحرري شامل إلى مجرد «نظرة لبنانية» ضيقة، كما ورد في رسالة سعاده إلى رفيق الحلبي.[2] لم يكن هذا الخطاب منعزلاً، بل كان الإطار الأيديولوجي لحركة مقاومة داخلية ضد الزعيم، قادها ثابت بدعم من مأمون أياس وأسد الأشقر، الذي ذهب من مصر إلى حد اتهام سعاده بـ «العجز عن إدراك ضرورات الموقف».[3]

لقد حاول هؤلاء تأسيس خط حزبي جديد قائم على «مسايرة الأوضاع» وقبول «تفاهم واشتراك مع ‘الفلانجيين’ والمتفرنسين»، في تراجع واضح عن مفهوم «سورية الطبيعية» لصالح منطق الطوائف والكيانات المصطنعة. وفي المحاضرة الأولى التي ألقاها في الندوة الثقافية، يقول:

إنّ «الواقع اللبناني» الذي كتبه نعمة ثابت وألقاه في اجتماع بعقلين سنة 1944 يشكل خروجاً عن معنى الأمة الذي نفهمه، والانتقال إلى القول بأمة جديدة: «الأمة اللبنانية». وهو، فوق ذلك، يدل على إهمال مقصود لدرس عقيدة الـحزب وتاريخه.

فـي «الواقع اللبناني» كـل شيء قـومي صار «لبنانياً» فقد تكلم نعمة ثابت فيه على قيم لها كل الصفة القومية العامة ونسبها إلى لبنان واللبنانيين، بدلاً من أن ينسبها إلى سورية والسوريين كما يتفق مع الـحقيقة. من هذه القيم التراث والأخلاق، والثقافة والتاريخ والرسالة.[4]

ويكشف سعاده أن هذه الخيانة المنظمة، «الصارخة الفاجرة»، بلغت ذروتها «بمحاولة اغتيال الزعيم سياسيًّا بمكائد خسيسة»[5]، بعد أن «كتموا عنه جميع تفاصيل ‘سياستهم’… وجميع المفاوضات والارتباطات مع بعض السياسيين اللبنانيين.»[6] ويصف هذه الأفعال بأنها «جرائم لا يمحوها الطرد ولا يغسل عارها النفي«، خاصة عندما يصل الخائن إلى درجة الإدعاء »بوقاحة وصفاقة وجه: قد كرست حياتي لهذه الجرائم.»![7]

ويؤكد سعاده في حديث له إلى جريدة «كل شيء» أن قضية نعمة ثابت هي «قضية خيانة للعقيدة القومية الاجتماعية، والنظام الحزبي، وتآمر على سلامة الزعيم والقضية القومية والاجتماعية مع بعض السياسيين الشخصيين في لبنان«[8]، مما يجعلها نموذجاً شاملاً للخيانة التي تجمع بين العدمية الفكرية والغدر التنظيمي والتآمر السياسي. ويضيف:

هي قضية «تمرّد على المقررات المتخذة ضمن المجلس الأعلى ومجلس العمد على أساس دستوري صريح، والتعاون مع سياسيين لبنانيين على محاربة الزعيم ومحاولة التضييق والقبض عليه، واستغلال الحزب لنجاحه الفردي، والاستفادة الفردية منه.»[9]

  • الخيانة الفكرية بالانقلاب العقدي: نموذج فخري معلوف

تمثل قضية فخري معلوف نموذجاً للخيانة الفكرية التي تنتقل من الانحراف إلى الانقلاب الكلي على المبادئ والايمان القومي الاجتماعي. هذا الانقلاب الصريح نتج، برأي سعاده، «عن تولّد عقيدة دينية قوية فيه» و«تسلّط الهوس الديني على عقله» بعد اتصاله بالمدرسة الرهبانية (الكاثوليكية) التي درَّسَ فيهأ.[10] ويختصر سعاده انحرافه فائلاً: «شذوذ فخري معلوف وانحرافه، ليس في أنه يدين يالكاثوليكية، بل بقوله بفرض نظرياتها ومذاهبها السياسية على سياسة الدولة القومية»[11]. وفي رسالته إلى غسان تويني، يوضح سعاده أن معلوف لم تقتصر خيانته على الانحراف الداخلي، بل سعى إلى ‘وضع منظاره الديني، بعدساته المنحرفة، على عيون الآخرين’، محاولاً فرض رؤيته الشخصية على العقيدة الجماعية.[12] ويتهمه بأنه

«يريد إثارة حرب العقائد الدينية لمجرّد أنه اعتنق مؤخراً مذهبياً دينيًّا معيناً، وأنه يحارب إنشاء دولة لا تقوم على الكنيسة الموحدة تحت رئاسة البابا المعصوم عن الغلط، وأنه يرى لزاماً على أبناء قومه أن يروا صحيحاً المذهب الذي يراه هو صحيحاً، فإذا اعتنق اليوم الكاثوليكية يجب على الجميع أن يصيروا كاثوليكيين، وإذا عاد أو صار غداً بروتستانتيًّا وجب عليهم أن يروا البروتستانتية المذهب الوحيد الصالح، وإذا لم يكن هو متديناً فلا بأس أن لا يهتموا بالدين ولكن إذا صار هو متديناً فالويل لهم إذا ظلوا في عدم اكتراثهم للدين لأنهم حينئذٍ يكونون ‎ ‏‏ملحدين ومصيرهم إلى النار وفي سعيرها يخلدون!»[13]

وقد صنف سعاده هذا الفعل كـ ‘خيانة كبرى« لأنه يعني الخروج الكلي عن العقيدة والعمل ضدها و’العودة إلى نزاع المذاهب وتمزيق الأمة» وإثارة حرب عقائدية.[14]  ويتعمق سعاده في تحليل هذه الخيانة الفكرية، فيكشف أن اتهام فخري معلوف له بالإلحاد يستند إلى «كتاب نشوء الأمم وبعض تعابيره العلمية المخالفة لمقررات التوراة في الوجود الإنساني ونشوء النوع البشري».[15] ويبين سعاده بطلان هذا الاستناد، موضحاً أنه «يمكن المرء أن يكون مسلِّماً بحقائق المدرسة العلمية وأن يحتفظ لنفسه برأي خاص في تعليل الوجود ومصدره ومصيره».[16]

ويقدم سعاده حجة دامغة على تناقض معلوف، فيشير إلى أن «فخري معلوف نفسه يصح أن يُرمى الآن، بعد إعلان حماسه للمذهب الكاثوليكي، بتهمة الإلحاد، حين يعلّم في المدرسة أن الأرض تدور حول الشمس، لا الشمس حول الأرض».[17] ويضرب سعاده مثلاً آخر على هذا التناقض بقصة إيقاف يشوع بن نون للشمس، معتبراً إياها «خرافة لا تصدق مهما كان المرء مؤمناً بالخوارق.»[18]

ويلفت سعاده إلى أن «الزعيم لم يؤلف كتابه نشوء الأمم لمعالجة القضايا الفلسفية الدينية وإعلان حكمه أو رأيه الأخير فيها»، معتبراً أن «كل محاولة لتعيين رأي الزعيم الأخير في قضية الوجود والعدم وفروعها بقصد خاص وبالاستناد إلى بعض تعابيره وآرائه واستنتاجاته في قضايا ومسائل أخرى هي محاولة مغرضة وتحامل منكر.»[19]

ويكشف سعاده عن الدافع الحقيقي وراء هذه الخيانة الفكرية، وهو تحوّل معلوف إلى «مؤمن متحزب لبعض العقائد والمذاهب الاصطلاحية، يريد تقرير شؤون الإنسان الاجتماعية والسياسية والنفسية بالإيمان بالافتراضات الدينية الاصطلاحية التي يسميها ‘حقائق’ وبإحلال الإيمان محل العقل والعلم والبرهان.»[20]

وأظهر سعاده في معالجته لهذه القضية منهجية متدرجة، بدأت بـ ‘إعطاء فرصة كافية للمراجعة’، وانتهت بالحكم الحقوقي الصارم بأنه ‘منقلب على المبادئ وحانث بيمينه’ دون أي مبرر نظامي.[21] وأصدر سعاده مرسوماً يقضي بفصل فخري معلوف عن جسم الحركة القومية ومقاطعته اجتماعيا وفكريا.


[1] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949،”نعمة ثابت بطل إذا لم أسبق”،

[2] راجع رسالة سعاده إلى رفيق الحلبي، 22/06/1947.

[3] المرجع ذاته.

[4] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، بيروت، ص 17-18

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949،”نعمة ثابت بطل الخيانة”،

[6] المرجع ذاته.

[7] المرجع ذاته.

[8] حديث الزعيم إلى جريدة كل شيء، كل شيء، بيروت، العدد 20، 31/7/1947، راجع الأعمال الكاملة، المجلد الثامن.

[9] حديث الزعيم إلى جريدة كل شيء، كل شيء، بيروت، العدد 20، 31/7/1947، راجع الأعمال الكاملة، المجلد الثامن.

[10] إلى غسان التويني، 02/04/1946.

[11] إلى ميشال أبو رجيلي، 23/02م1946.

[12]  إلى غسان التويني، 07/04/1946.

[13] المرجع ذاته.

[14] المرجع ذاته.

[15] المرجع ذاته.

[16] المرجع ذاته.

[17] المرجع ذاته.

[18] المرجع ذاته.

[19] المرجع ذاته.

[20] المرجع ذاته.

[21] المرجع ذاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *