من الأسطورة إلى الأركيولوجيا: معركة الهوية بين الرواية التوراتية والجذر الكنعاني

1 ـ تمهيد: حين يتحوّل التاريخ إلى ساحة صراع على الذاكرة

تكشف المقارنة المعمّقة بين الإرث الكنعاني الأصيل في المشرق القديم وبين الرواية التوراتية اللاحقة عن بنية صراع لا تقف عند حدود الإيمان أو الأسطورة، بل تتصل مباشرة بآليات تشكيل الهوية السياسية والثقافية لشعوب المنطقة ـ فالسردية التوراتية لم تُكتب بوصفها تسجيلاً محايداً للماضي، بل كخطاب وظيفي يسعى إلى إعادة صياغة الذاكرة، وانتزاع الشرعية من تاريخ الأرض الكنعانية العريق، وتحويله إلى مسرح لوعد جديد يسكنه «شعب مختار».

2 ـ أصالة الموروث الكنعاني: الإنسان والأرض كنسيج واحد

قبل ظهور السرديات التوراتية، كانت المنطقة مسرحاً لحضارة كنعانية تمتد جذورها آلاف السنين ـ لم تكن هذه الحضارة مجرد تجمع مدن، بل منظومة قيمية ترى الإنسان امتداداً طبيعياً للأرض، وتعتبر العلاقة مع التراب علاقة انتماء لا استحواذ، وشراكة لاغزو.


 تُبرز النقوش الكنعانية والطقوس الدينية وفنون العمارة والممارسات الزراعية فلسفة متكاملة قوامها:

  • احترام دورة الحياة،
  • تقديس خصوبة الأرض،
  • اعتبار المجتمع المتنوّع ثروة لا تهديداً،
  • والتعامل مع الآخر على أساس التبادل لا الإلغاء.

هذه القيم ـ التي تشبه الأخلاق المدنية الحديثة أكثر مما تشبه شرائع الغزوات ـ تناقض جوهرياً البنية الذهنية للرواية التي ستظهر لاحقاً، حيث يصبح «الآخر» غير المختار هدفاً للإخضاع، وتصير الأرض هبة إلهية تُنتزع بالدم لا بالزراعة والبناء.

3 ـ إبراهيم وملكي صادق: رمز الازدواج السردي بين الأصل والوظيفة

تُظهر المقارنة بين شخصية إبراهيم وشخصية ملكي صادق أن الرواية التوراتية قامت بعملية استيعاب للأصل السابق ثم إعادة توجيه له.

  • إبراهيم يظهر كشخصية رحّالة، تُبنى حولها قصص تمزج الغرابة بالأسطورة، وتُكسبها وظيفة مركزية في ميثولوجيا «العهد«.
  • ملكي صادق على المقابل هو تجلٍّ للمدينة ـ الدولة الكنعانية: ملك وكاهن في الوقت نفسه، يمثل عدالة الأرض ونظامها الروحي، وقيم الانسجام بين الإنسان والمكان.

بهذا المعنى، حملت السردية التوراتية هدفاً واضحاً: تفريغ الرموز الكنعانية من محتواها الأصلي، ثم إعادة ضخّها في هوية جديدة تستبدل روح الأرض بروح العهد، وتستبدل العدالة بالشعور بالتفوق، وتستبدل الانتماء بالتملك.

4 ـ القيم الكنعانية مقابل القيم التوراتية: صراع أخلاقي قبل أن يكون صراعاً تاريخياً

لم يكن التناقض بين الجانبين فكرياً فقط، بل قيمياً أيضاً.

  • الكنعانيون احتفوا بالحياة، وبالتنوع، وبالمواسم، وبالخصوبة، وبالتجارة، وبالتفاعل مع الشعوب.
  • السردية التوراتية قدّمت نموذجاً آخر: شعب مميَّز، أرض موعودة، غزو مبرّر، إبادات «مقدسة»، واحتقار للآخر الذي يُنظر إليه كتراث وثني.

هذا التصادم بين أخلاق الأرض وأخلاق الإلغاء هو جوهر الأزمة التاريخية التي ستحيا المنطقة آثارها حتى اليوم.

5 ـ الأركيولوجيا تُحاكم النص: ماذا تقول الحجارة؟

مع كل تطوّر في علم الآثار، يتراجع حضور الرواية التوراتية بوصفها مصدراً تاريخياً ـ فالحفريات الممتدة منذ مطلع القرن العشرين تكشف الآتي:

  • لا دليل على غزو كاسح أو هجرة شعبية ضخمة كما تروي التوراة.
  • لا تغيير جذري في البنية السكانية بين العصر البرونزي والحديدي.
  • المجتمعات التي ظهرت لاحقاً هي تطور طبيعي داخل الحضارة الكنعانية نفسها.
  • أسماء الأماكن، المعابد، النقوش، الأواني، المقابر، كلّها تتحدث بلغة واحدة: لغة كنعان.

وبذلك يتبيّن أن الأرض لم تفرغ من أهلها كي تمنح لشعب جديد، بل هي امتداد حضاري متصل لم ينقطع إلا في الرواية، لا في الواقع.

6 ـ من لاهوت الأسطورة إلى لاهوت الاستيطان: الاستخدام السياسي للسردية

لم تبقَ السردية التوراتية مجرّد نصوص تقرأ في المعابد، بل تحولت ـ خصوصاً في العصر الحديث إلى أدوات سياسية فعّالة.
 فقد وُظّف مفهوم «الوعد» داخل الحركة الصهيونية بوصفه شرعية فوق ـ تاريخية فوق ـ قانونية، تسوّغ الاستيلاء على الأرض وتهجير السكان.
 هنا لم يعد النص المقدّس مادة روحية، بل صار سلاحاً:
 سلاحاً لقطع الجذور، وتغيير هوية المكان، وإقصاء أصحاب الأرض التاريخيين.

7 ـ الأركيولوجيا المضادة: استعادة الذاكرة المسروقة

في مواجهة هذه السردية، تبرز الأركيولوجيا الحديثة كقوة مقاومة معرفية تعيد بناء صورة المشرق كما كان:

  • شبكة مدن كنعانية مزدهرة، ولغات متقاربة،طقوس مترابطة،رموز دينية مشتركة،تفاعل بين الساحل والداخل،وذاكرةعمرهاآلاف السنين لا يمكن اختصارها في أسطورة لاحقة ـ إنها أداة تحرير، تفضح الوعي الكاذب الذي صيغ لخدمة مشروع سياسي.

8 ـ الهوية بين الأسطورة والتاريخ: ماذا نختار؟

من خلال هذه المقارنات يظهر سؤال جوهري:

 هل نقرأ المشرق كأرض انتظار لوعد يأتي من الخارج؟ أم نقرأه كحضارة مكتملة، لها موروثها، وقيمها التي سبقت كل النصوص اللاحقة؟

تجيب الأدلة المادية والنقوش والمدن المدفونة إجابة واحدة:

 الشرق كنعاني في جذره، محلي في رموزه، أرضيّ في قيمه، وإنساني في أخلاقه.

9 ـ القومية الاجتماعية كامتداد للروح والنفسية السورية الكنعانية: أنطون سعاده وصياغة هوية الأرض

ليس من المصادفة أن يجد فكر أنطون سعاده صداه العميق في الوجدان المشرقي، لأن القومية الاجتماعية في جوهرها ليست اختراعاً فكرياً مستورداً، بل استعادة لروح هذه الأرض، لإيقاعها القديم، لطباعها، ولتجربتها التاريخية الممتدة من كنعان إلى اليوم.

لقد طرح سعاده فكرة الأمة بوصفها ظاهرة اجتماعية ـ جغرافية ـ تاريخية تقوم على تفاعل الإنسان مع الأرض عبر الزمن ـ هذا المفهوم هو ذاته الذي شكّل أساس الهوية الكنعانية نفسها:

الأرض ليست ملكية فردية، بل هوية جمعية.والمجتمع ليس تجمعاً عابراً بل كياناً عضويا والتاريخ ليس رواية لاهوتية بل تجربة بشرية متراكمة.

هذه المبادئ، التي صاغها سعاده بلغة العصر، هي ذات المبادئ الفطرية العفوية التي عاشها الكنعانيون منذ آلاف السنين ـ فالهوية في الوعي الكنعاني لم تكن قائمة على الدم أو الانتماء القبلي أو الاختيار الإلهي، بل على العيش المشترك في المكان، وعلى المصلحة القومية العليا، وعلى المقدرة الإنتاجية، وعلى العدالة التي كان يمثلها رمز ملكي صادق.

لذلك تبدو القومية الاجتماعية  ـ  حين يُعاد وضعها في سياق التاريخ الطويل للمشرق  ـ  امتداداً طبيعياً للروح الكنعانية نفسها، لا سيما في المبادئ الآتية:

1 ـ الإنسان ابن بيئته لا ابن نصّ مكتوب

وهذا يتطابق مع الوعي الزراعي ـ المديني الكنعاني الذي ربط الإنسان بدورة الحياة والطبيعة.

2 ـ الوحدة القومية بوصفها وحدة حياة لا وحدة دم

وهو بالضبط ما ميّز المدن الكنعانية القابلة للانفتاح والتعدد والتفاعل.

3 ـ إلغاء الطائفية بوصفها بنية دخيلة

وهو موقف يعيد الاعتبار لمرحلة كنعانية سبقت الانقسامات الدينية اللاحقة.

4 ـ رفض الاستعمار ورفض السرديات التوراتية التي تُستخدم لتبرير الاستيطان

وهنا تتقاطع القومية الاجتماعية مباشرة مع مشروع استعادة التاريخ من سلطة الأسطورة.

5 ـ العدل الاجتماعي كقيمة عليا

وهو صدى مباشر لفكرة ملك-كاهن التي مثّلها ملكي صادق، والتي جمعت بين السلطة والأخلاق في قالب واحد.

بهذا المعنى، تتجاوز القومية الاجتماعية كونها مشروعاً سياسياً إلى كونها إعادة إحياء لذاكرة الأرض، وتحريراً معاصراً لجذرٍ كنعانيٍ طويل حاربت السرديات التوراتية على طمسه.

 خاتمة: استعادة السردية السورية الكنعانية كفعل تحرّر

إنّ الصراع بين الرواية التوراتية وبين الأدلة الأركيولوجية ليس خلافاً بين «إيمان» و«علم»، بل هو صراع بين هوية أصيلة وسردية مُصادِرة.

 واستعادة الجذر الكنعاني ليست عودة إلى الماضي، بل هي استعادة لأداة قوة، لمنظومة قيم ترى الإنسان جزءاً من أرضه لا غازياً عليها، وتؤمن بأن الهوية تُزرع كما تُزرع الحقول، ولا تُنتزع كما تُنتزع الغنائم.

في زمن تُعاد فيه هندسة خرائط المنطقة وهوياتها، يصبح الوعي التاريخي ـ وخاصة الوعي بالأصل الكنعاني ـ شرطاً من شروط التحرّر السياسي والثقافي ـ فالشعوب التي تعرف جذورها، تعرف أيضاً كيف تُسقط الروايات التي صيغت لطمسها، وكيف تبني مستقبلاً لا تقوم حدوده على أسطورة غزو، بل على حقيقة حضارة عميقة لا تزال تنطق من بين الحجارة والوديان والبحار:
 هنا كانت كنعان سورية… وهنا ما زالت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *