البنك المركزي السوري وخياراته المدمرة للاقتصاد

إن الإجراء الذي اتخذه المصرف المركزي السوري، بإلزام المصارف بتغطية «انكشافها»  الكلي على القطاع المالي اللبناني وكأنها خسائر محققة ونهائية، ليس مجرد فقرة في دفتر حسابات، بل هو قرار إفناء مبرمج، وطعنةُ غدرٍ تُدمي شرايين الاقتصاد الوطني. إنها خطوة جبارة في تدمير الذات، تجري تحت لافتة «الإصلاح البراقة، التي لا تخفي سوى رغبة عمياء في بيع ما تبقى من كرامة البلاد المالية للوافدين الجدد. هذا الإجراء هو حجابٌ من التضليل يُسدَل على حقيقة وطنية قاسية: لقد تم التضحية بالسيادة على مذبح التبعية والارتهان.

إن هذا القرار، بقيمته الهائلة التي تقارب 1.6 مليار دولار، يعكس ذهنية إفلاس لا ترى في الأزمة إلا فرصة لإعادة تشكيل خبيثة تستهدف جوهر الاستقلال الاقتصادي. إننا أمام فعل يُسقط آخر القلاع المالية الوطنية ليس بفعل عدوان خارجي مباشر، بل بقرار إداري داخلي، يحمل كل أوزار التنازل والتفريط.

 فكيف يُمكن لمؤسسة تدعي الحكمة أن تختار خنق مؤسساتها المالية بيدها، إلا إذا كانت تعمل وفق إملاءات تهدف إلى تفريغ الساحة وتجهيزها لاحتلال مالي قادم؟ إنها البلاغة السافرة في لغة الخسارة؛ تحويل الأصول إلى أصفار، ليكون الثمن المدفوع هو مستقبل الأمة بأسره.

أولًا: عبثية «الحوكمة» وتزييف الواقع النقدي

إن المفارقة الأكثر بلاغة في هذا المشهد المأساوي هي أن المصرف المركزي يرفع شعار «الحوكمة والشفافية» وضرورة الالتزام بالمعايير الدولية (معايير بازل مثلاً) في بيئة تخلو من أبسط مقومات الرقابة المستقلة أو القضاء المالي النزيه.

 كيف لمؤسسة تفتقر إلى أي تصنيف ائتماني دولي، ولا تنشر بيانات مالية شفافة عن احتياطاتها أو قاعدتها النقدية، أن تُطالب مصارفها بالالتزام بمعايير عالمية صارمة خلال مهلة لا تتجاوز ستة أشهر؟

إن هذا الالتزام المفاجئ بالمعايير العالمية هو في حقيقته استعراض هزيل يهدف إلى تجميل صورة القطاع تمهيداً لبيعه، وهو في الوقت ذاته آلية عقابية تستثني الجهة المنظمة نفسها من الخضوع لهذه القواعد. فالمؤسسة التي تعجز عن تنظيم سوق المدفوعات الإلكترونية أو ضبط سوق التحويلات تُطالب المصارف بالكمال المحاسبي!

هذه الانتقائية في تطبيق الشعارات ليست إلا دليلاً على أن الهدف ليس إصلاحاً هيكلياً عميقاً، بل هو تغيير في الملكية وإعادة توزيع للمراكز يتم بقرار فوقي لا يخضع لمنطق السوق أو أحكام القانون. بهذا المعنى، تتحول «الحوكمة» إلى قناع جميل يغطي أقسى أشكال السيطرة والاستفراد بالقرار المالي، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى خطط تشاركية وتدرج واقعي يأخذ بعين الاعتبار حالة البلاد الاستثنائية. إنها قمة التناقض: يبيعون الوهم للداخل، بينما يعدّون الموائد للغريب.

ثانيًا: بوابة الوصاية الأجنبية واحتلال المال التركي والخليجي

تزداد مرارة المشهد عندما نفهم توقيت هذه المجزرة المالية. هذا القرار يأتي كـتمهيد قسري لمرحلة «الانفتاح» التي يُراد لها أن تكون باباً واسعاً لدخول رؤوس أموال تركية وخليجية.

 وهنا يرتفع الارتياب إلى درجة اليقين: إن ما يجري هو إعادة هندسة وتفكيك هادئ للبنية المصرفية القائمة، لخلق فراغ هائل يُملأ بتمويلات تأتي محملة بالإملاءات.

إن المصرف المركزي، الذي كان من المفترض أن يكون ساهرًا على حرمة المال الوطني، يضطلع اليوم بدور الممهد لخريطة طريق اقتصادية جديدة، تُرسم خطوطها العريضة في عواصم إقليمية، لا في دمشق. الهدف المعلن هو «الاستقرار»، أما الهدف المضمر فهو إعادة الاصطفاف لمراكز النفوذ، بحيث تنتقل مفاتيح التمويل إلى يد اللاعبين الجدد. هذا ليس استثماراً شريفاً، بل هو احتلال مالي ناعم، يسعى للهيمنة على مقدرات البلاد تحت غطاء الشراكة.

لقد اختارت السلطة أن تبيع ماء الوجه الوطني، وأن ترهن مستقبل أجيالنا لتبعية تُمليها الأموال التركية والخليجية. إنها تُقدم القطاع المصرفي كـوليمة باردة على مائدة الأجندات الخارجية، رافضةً مبدأ التدرج الحكيم في الإصلاح، ومفضلةً مبدأ العقوبة الإدارية السريعة التي تكسر ظهر المؤسسات الوطنية، لضمان أن تبقى الساحة خالية للوافدين.

إن هذه التمويلات الخارجية لا تأتي لإنقاذ الشعب، بل لضمان مصالح استراتيجية تتوافق مع أجندة أنقرة الإقليمية أو مع استراتيجيات التوسع المالي لدول الخليج. بهذا القرار، تكون الدولة قد أعلنت نهاية حقبة الاستقلال المالي، وبدء حقبة الوصاية الاقتصادية التي تفرضها القوى الإقليمية، التي ستحوز على الأصول بثمن بخس، وتهيمن على قرار إعادة الإعمار والتنمية لصالحها.

ثالثًا: سوريلبناني: معادلة الإنكار المشترك والانهيار المبرمج

يزداد المشهد سخرية حين نرى أن هذا القرار المدمّر يستبطن معادلة الإنكار السوري-اللبناني المشترك. فالمصرف المركزي السوري، في ذروة أزمته، يحاكي نموذج نظيره اللبناني في ذروة الانهيار: كلاهما أنكر المشكلة سنوات طوال، ثم واجهها بقرارات صادمة تتخطى قدرة الاقتصاد على الاحتمال. والفارق الجوهري هو أن لبنان انهار أولاً ثم حاول الالتقاط أنفاسه، بينما تبدو سورية اليوم وكأنها تختار الانهيار المبرمج باسم «الإصلاح».

هذا التعامل مع «الانكشاف على لبنان» يغفل حقيقة أن النظامين المصرفيين مرتبطان عضوياً بخطايا السياسات الإقليمية والحصار الخارجي. إن معالجة أزمة بهذا الحجم تتطلب تضافر الجهود والاعتراف المشترك بالمسؤولية، لا اتخاذ قرار فوقي أحادي يلقي كامل العبء على المصارف الوطنية السورية. إن هذا القرار، بتوقيته وآليته، يخدم أجندات كبرى لا علاقة لها برفاهية المواطن السوري أو اللبناني، بل بتصفية ملفات معقدة لتمكين قوى مالية جديدة. إنها وصفة جاهزة لإماتة الميت في البلدين، في درس تاريخي عن فشل الأنظمة النقدية في حماية شعوبها وتحولها إلى أدوات هيمنة بدلاً من أن تكون روافع تنمية.

لا يجوز لهذا المشهد المهين أن يمر دون يقظة وطنية جامعة. إن الإقدام على البتر السريع لجرح مالي عميق، دون خطة رسملة واضحة أو إشراف مستقل، هو اعتراف بالعجز، وتكريس لمفهوم الدولة التي تختار الانهيار المبرمج بدلاً من الكفاح من أجل الانعتاق.

لا إصلاح حقيقي يبدأ بتجفيف الائتمان وقتل الإنتاج. الإصلاح يبدأ بإعادة بناء الثقة المنهارة، والدفاع عن كل قرش وطني، ورفض الإملاءات الفوقية التي لا تتلاءم مع خصوصية أزمتنا. إن كرامة الأمة المتبقية تستوجب منا أن نرفض أن تكون مقدراتنا المالية أداةً للهيمنة، وأن نُعلي من شأن الإنتاج الوطني على حساب سطوة المال الأجنبي. ورفض أن يُستبدل الاستقلال السياسي بالتبعية الاقتصادية.

 الخيار اليوم ليس بين نظامين مصرفيين، بل بين السيادة والذل. فلنعد إلى ركائزنا: التدرج في الإصلاح، الشفافية الحقيقية التي تشمل الجهة المنظمة قبل الخاضعة للتنظيم، والأهم، الدفاع عن كل مؤسسة وطنية بوصفها خندقاً أخيراً في معركة الحفاظ على ما تبقى من وطن. إن مصيرنا لا يجب أن يقرره قلم مسؤول في مصرف مركزي يتلقى أوامره من أجندات خارجية، بل يجب أن يقرره العمل الوطني المنتج الذي يُعيد لبلادنا عزتها واستقلالها.

إن الرهان على التمويل التركي والخليجي لن يجلب سوى وصاية جديدة، تتكسر عليها أحلامنا وآمالنا في التعافي. فلنتصدّ لهذه التصفية القائمة، ولنُطالب بخطة إنقاذ وطنية جذرية تبدأ بإلغاء القرارات العقابية، وتُعيد الثقة للبنوك، وتُطلق يد الإنتاج الحر، قبل أن نجد أنفسنا في وطنٍ بلا سيولة، بلا إنتاج، وبلا قرار مالي مستقل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *