منيب أبو سعادة، الصحفي الفلسطيني الساكن في بلدة بني سهيلا شرق خانيونس جنوب قطاع غزّة في كتابه أرض لا تموت (بيروت، دار نلسن، 2025) يروي سيرة حياة أهله في غزّة حيث كلّ يوم في غزّة هو صراعٌ من أجل البقاء، لا يشبه الصّراع الذي يخوضه البشر في أماكن أخرى، حيث يسعون لتحقيق الأحلام والطّموحات، أو يواجهون تحدّيات العمل والدراسة والعلاقات الاجتماعيّة، ففي غزّة، الصّراع هو أن تستيقظ في الصّباح وأنت ما زلت على قيد الحياة، أن تجد ماءً صالحاً للشرب، أن تحصل على رغيف خبزٍ واحدٍ لإطعام أطفالك، أن تتمكن من البقاء في مكان آمن – رغم أنك تدرك أنّه لا يوجد شيء اسمه الأمان في غزّة. ففي غزّة يتعلّم الأطفال أسماء الطائرات الحربيّة قبل أن يتعلّموا أسماء الطّيور، ويحفظون تفاصيل الصّواريخ أكثر مما يحفظون تفاصيل القصص التي ترويها أمّهاتهم قبل النّوم، وفي غزّة، يتحوّل الظلام إلى ملاذٍ آمن، حيث يخشى النّاس إشعال ضوءٍ قد يجذب قذيفة، ويتحوّل الليل إلى فخ مميتٍ عندما تبدأ الطائرات بالتحليق، حيث يصبح كلّ شيء هدفاً محتملاً، حتى تلك الأزقّة الضيّقة التي لطالما كانت ملجأ للأطفال وهم يركضون خلف الكرة.
في غزّة، لا شيء يبقى كما هو، البيوت تتحوّل إلى أنقاض، المدارس تصبح ملاجىء، المستشفيات تغرق في الدماء، والشوارع التي كانت تمتلىء بالحياة تتحوّل إلى ساحاتٍ للموت. ورغم ذلك، تستمرّ الحياة. يستمرّ النّاس في البحث عن الماء والكهرباء والدواء، في إيجاد طرق للبقاء على قيد الحياة رغم كلّ شيء، في التمسّك بما تبقّى من الأمل في عالم لا يريد أن يسمع، لا يريد أن يرى، لا يريد أن يفهم.
يوثّق منيب أبو سعادة حياة غزّة، حيث تلتقي السّماء بالأرض في صراعٍ أبدي، حيث تختلط رائحة التراب المحترق بأصوات الصواريخ المنهمرة، وحيث يصبح ضوء النّهار امتداداً لظلامٍ دامس يلفّ القلوب قبل أن يلفّ المدينة، تبدأ الحكاية. ليست حكاية خياليّة، ولا هي محاولة لخلق دراما من العدم، بل هي شهادةٌ حيّة على زمنٍ أصبح فيه البقاء بحدّ ذاته معجزة، وعلى حياةٍ صارت مزيجاً متناقضاً بين الموت والنّجاة، بين الفقدان والأمل، بين الصراخ والصمت، بين الخراب والتمسّك بما تبقّى من ذكرياتٍ وأحلام مؤجّلة.
يقرّ منيب أبو سعادة بأنّ الصحافة لم تكن بالنسبة له مجرّد مهنة، بل كانت التزاماً، مسؤوليّة، معركة أخرى يخوضها يوميّاً. كان يخرج كلّ صباحٍ بالكاميرا في يده، يوثّق اللحظات الأخيرة لمن رحلوا، محاولاً أن يكون عيناً للعالم الذي قرّر أن يغلق عينيه أمام عذاب أهل غزّة. كان يكتب لأنّ الكتابة هي الطريقة الوحيدة لجعل صوته مسموعاً، لكنّها في ذات الوقت كانت لعنة، لأنّ الكلمات مهما كانت قويّة، لا يمكنها أن تصف حجم الألم، لا يمكنها أن تعبّر عن مشاعر الطفل الذي فقد أمّه، أو الأب الذي يقف عاجزاً أمام جثّة ابنه، أو المرأة التي تحاول العثور على بقايا منزلها بين الأنقاض.
محمود شريح

