- الخيانة كانحطاط فكري وأخلاقي
إنّ الخيانة الفكرية ليست مجرّد خطأ في الاجتهاد أو انحراف في الرأي، بل هي أخطر من ذلك بكثير حين تتجسّد في الإصرار على الذهنيات الراكدة، والتمسّك بالمؤسسات العتيقة والتقاليد الموروثة التي أثقلت الحياة القومية وشلّت إرادة التقدّم في الأمة. ففي ندائه إلى السوريين عبر الحدود يشير سعاده بوضوح إلى أنّ علّة الأمة الكبرى ليست فقط فيما يخطّطه الأعداء، بل في الداخل، حيث «المؤسسات العتيقة والذهنيات الرجعية» التي «كبّلت الأمة» وأعاقت انبعاث «القوة السورية الجديدة» القادرة على حمل عبء النهضة.[1]
ويُعمّق سعاده هذا التشخيص في مقال التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي حين يبيّن أنّ التقاليد البالية هي بمثابة قوالب جامدة «تمنع نفسيتنا وعقليتنا من النمو»[2]، وأنّ ما يرافقها من اقتباس عشوائي وتقليد أعمى ليس سوى «جبن نفسي» و«فساد حياة عقلية» يجعل المجتمع عاجزاً عن التفكير المستقل أو المبادرة.[3] وهذا التكاسل عن نقد الذات والرضوخ لهذه القوالب يُعدّ عند سعاده ضرباً من الخيانة، لأنه خيانة لجوهر النهضة التي تقوم أولاً على كسر هذه القيود وإجراء «ثورة على النفس» ـ على العادات المتهالكة وأنماط التفكير الموروثة ـ قبل أي إصلاح آخر. ويؤكّد سعاده: «ثقوا أنّ ما نجبن عن مواجهته نحن سيجبن عن مواجهته الجيل الآتي بعدنا، لأنه سينظر إلينا ويقتبس كثيراً من الميراث النفسي الذي نتركه له، كما ننظر نحن إلى الذين تقدّمونا ونقتبس كثيراً من الميراث النفسي الذي خلّفوه.»[4]
إنّ التمسّك بالروح القديمة، كما يحذّر سعاده، لا يجمّد الأمة فحسب، بل يشوّه قدرتها على إدراك حقيقتها ومصلحتها وموقعها في العالم. وحين يتمسّك المجتمع بعناصر الجمود، ويفضّل الاتكالية والألفة مع أمراضه على مواجهة استحقاقات التغيير، فإنّه يفرّط بوعيه الجديد وبطاقته الخلّاقة، ويرتكب بذلك خيانة مزدوجة: خيانة لذاته التي تُطالَب بالتحرّر، وخيانة للمستقبل الذي كان يمكن أن يصنعه. ومن هنا، فإنّ الخيانة الفكرية تُعدّ من أخطر أنواع الخيانة، لأنها تُفقِد الأمة أهليتها لدورها الحضاري، وتُفرِّغ النهضة من معناها العميق.
- الخيانة الوصولية: من السباق على المنفعة إلى تسوية المبادئ
تمثل الخيانة الوصولية انحرافاً عن الغاية القومية لصالح المصلحة الشخصية الضيقة. فهي لا تنبع من عداء مبدئي للقضية، بل من ضعف في الإرادة والخلق، يجعل الفرد مستعداً للتخلي عن مبادئه في سبيل منفعة عاجلة.
الآلية النفسية والاجتماعية: الخيانة كسباق
يحلل سعاده السيكولوجيا الاجتماعية لهذا الداء في »المحاضرات العشر”، حيث يبين أن الخيانة تتحول إلى سلوك تنافسي مَرَضي:
«وكان كل خائن يظن أنه يقوم بمهارة عظيمة إذا سبق غيره إلى الخيانة ليستفيد من نتائجها. وإلى اليوم لا نزال نسمع من يقول إذا لم أسبق أنا إلى الخيانة يسبقني غيري ويأخذ الوظيفة. إذن يجب عليّ أن أسابق في الخيانة.»[5]
هذا التنافس على الخيانة يكشف كيف تتحول من فعل شائن إلى وسيلة مشروعة مزعومة للترقي في بيئة منحطة، حيث يصبح التركيز على «الوظيفة» والسباق نحو «اجتناء الفائدة» بأي ثمن.
السمات الأساسية للخائن الوصولي
- التركيز على «المنصب» لا على «الخدمة»: حيث يتحول الهدف من العمل الحزبي إلى البحث عن مركز نفوذ. يقول سعاده في تحليله لهذه الظاهرة: «اتخذوا من أعمال الزعيم موقف خصوم الحزب… وأخذت تصرفاتهم تنم عن السعي للمصالح والاتجاهات الشخصية، والاهتمام بالأمور الفردية قبل القضايا العامة.»[6]
- الاستعداد للتفريط بالمبدأ في الأزمات: يظهر الخائن الوصولي عند أول اختبار حقيقي، حيث «يظهر ضعفهم ويتزعزعون ويسقطون.»[7]
- ذروة الانحدار: الخيانة الفكرية «الإصلاحية» المزيفة: تمثل هذه الحالة أخطر أشكال الخيانة الوصولية، حيث يتحول الانتهازي من مجرد طالب منصب إلى مزيف للفكر ومشوه للمبادئ. يصف سعاده هؤلاء بأنهم: «فئة جديدة من المصلحين الواسطيين… انهزموا من المعركة واتجهوا نحو التسوية الوصولية» ـ محولين الخيانة إلى مشروع «إصلاح» مزيف، يهدف إلى كسب الشرعية على حساب تشويه الفكرة الأصلية. يقول:
«قد نشأت في الـمدة الأخيرة فئة جديدة من الـمصلحين الواسطيين هي فئة الـخونة الذين انتموا إلى الـحزب القومي الاجتماعي وتعلموا مبادىء قضيته الإنشائية الإصلاحية العظمى، ولكنهم لـجبنهم أو لنفعيتهم انهزموا من الـمعركة واتـجهوا نحو التسوية الوصولية ـ التسوية بين مبادىء النهضة القومية الاجتماعية من جهة والنفسية الرجعية وقضاياها النايو رجعية من الـجهة الأخرى! وبالتسوية الانهزامية، الواسطية، يصيرون أبطال إصلاح طويل عريض!»[8]
هنا تتحول الخيانة إلى مشروع «إصلاح» مزيف، يهدف إلى كسب الشرعية على حساب تشويه الفكرة الأصلية، تحت شعار التسوية والواقعية. وهكذا، تتحول الخيانة الوصولية من مجرد خطأ أخلاقي إلى آلية هدم من الداخل، تبدأ بالسباق على المنفعة الشخصية، وتنتهي بتسوية المبادئ وتزوير الفكر، مما يجعل أصحاب هذا النهج، في تقدير سعاده، نماذج للانحراف الأخلاقي والفكري، لما ينطوي عليه سلوكهم من تضليل للوعي العام وإضعاف لروح النهضة.
يتبع
[1] نداء زعيم النهضة القومية إلى السوريين عبر الحدود، النهضة، بيروت، العدد 67، 04/01/1938.
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد “التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي، المجلة، بيروت، المجلد 8، العدد 2، .1/4/1933
[3] المرجع ذاته.
[4] المرجع ذاته.
[5] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، 170.
[6] البلاغ الرسمي بشأن نعمة ثابت ومأمون أياس (نشرة عمدة الإذاعة، 15 تموز 1947).
[7] الاحتفال بمولد الزعيم في بيونس آيرس، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 39 ــــ 40، 1/03/142.
[8] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 ـ 1949، لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً..

