أليس السيد المسيح مشرقيّاً؟
أليس السيد المسيح من فلسطين، قلب هذا المشرق؟
أليست المسيحية وُلِيدة هذا المشرق، وفي هذه البيئة الثقافية الممتازة والتي حملت رسالتها إلى العالم؟
منذ الحقبة التاريخية الوسيطة، شكل المسيحيون في مشرقنا أحد أعمدة الهوية الحضارية والثقافية، بدءاً من فلسطين، إلى لبنان، وسورية، والأردن، والعراق، وصولاً إلى العالم، وكانوا جزءاً أصيلاً من نسيج اجتماعي متجانس عاش فيه مع المسلمين والمسيحيين تحت تاريخ، واحد ومصير واحد.
غير أن التحولات السياسية الأخيرة، تحديداً السياسات المعتمدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية (وإسرائيل) أعادت من جديد فتح النقاش حول السؤال الوجودي المتعلق بإعادة تشكيل منطقة المشرق بحيث أصبح ذلك يهدد الجميع المسيحين والمسلمين على السواء.
وانطلاقا من هنا، سنحاول في هذه المقالة الإجابة حول سؤال محوري وهو:
إلى أي مدى تُسهم السياسيات الأمريكية (الإسرائيلية) المبنية على نظريات وأطروحات مفكرين غربيين أمثال: برنارد لويس، صموئيل هنتنغتون، وفرانسيس فوكوياما، في بناء بيئة مفككة للأوطان وبالتالي دفع المسيحيين نحو الهجرة طوعية كانت أم قسرية وبالتالي وخسارة جذورهم التاريخية؟
أولاً: ضعف المشرق
بعد انهيار السلطنة العثمانية، وظهور الانتدابين الفرنسي-الإنكليزي بدأنا نشهد تراجعاً في سيادة منطقة المشرق سببه وعد بلفور واتفاقية سايكس-بيكو ومؤتمر سان ريمو، ومع قيام ما يُسمّى زوراً (قيام إسرائيل) في 14/ أيار/ 1948 وما تبعها من ويلات، بدأت علامات الخطر الديموغرافي-السياسي تظهر، ليس فقط في فلسطين، بل في منطقة المشرق بشكل عام. وقد تجسد ذلك بهجرة كبيرة للمسيحين، واللافت أن هذه الهجرة لم تكن بفعل الاختلاف الديني، بل بسبب كثرة الحروب والويلات.
وفي 9 / نيسان / 2003 سقط العراق وصعدت الميليشيات الطائفية، فكان من الطبيعي أن يدفع المسيحيون الثمن، فشهدت الساحة العراقية هجرات كبيرة، إضافة إلى عمليات القتل، والسرقة، والفرار القسري
وفي منتصف شهر آذار من العام 2011 اندلعت أيضاً أعمال العنف في سورية فرأينا المشهد العراقي Copy Paste عينه، من فوضى وقتل وتهجير قسري وصعود التنظيمات التكفيرية والارهابية التي وجدت في وجود المسيحين هناك هدفاً.
أما بعد 7/10/2023 أي منذ طوفان الأقصى والعدوان المستمر على غزّة حتى كتابة هذا المقالة، فأن العدو لم يكتف بتدمير البشر والحجر وصولا إلى يُوصف بالإبادة الجماعية فحسب، بل سعى إلى إعادة جغرافية غزّة ومحو الذاكرة، تأسيساً «لشرق أوسط جديد» وهنا نرى بوضوح كيف تُفرّغ غزة ليس من المحمديين فحسب، بل من المسيحيين أيضاً.
وفي سورية المنكوبة، ونتيجة تدخل القوى الأجنبية لوحظ تراجع كبير في أعدد المسيحيين الذين كانوا من أول المتأثرين.
أما في لبنان فنرى أن هناك انهياراً متعمداً، فالضغط الاقتصادي – المالي المتزامن مع الضربات اليومية، يضع المسيحيون في قلب الأزمة، مما يضطرهم إلى الهجرة. وهذا يشكّل تهديداً فعلياً لآخر المراكز السياسة-الثقافية في المشرق.
وبالنسبة إلى العراق، وعلى الرغم من حالة الاستقرار النسبية ألا أن آثار داعش والتنظيمات الإرهابية لا تزال تسيطر ما زالت تضرب الوجود المسيحي الذي أصبح قليل جداً نتيجة الأحداث التي عصفت بالبلاد.
أما الأردن، فهو محاصر بالكثير من التهديدات، أن كان من سورية أو فلسطين أو العراق، ما يجعله عرضة لانتكاسات يمكن أن تنعكس على مكوناته التاريخية أيضاً
ثانياً: السياسات الأمريكية – الإسرائيلية
مع الأسف، لقد تقاطعت الدراسات الغربية لبرنارد لويس، صموئيل هنتنغتون، وفرانسيس فوكوياما في الدعوة إلى مزيد من تقسيم منطقة المشرق إلى كيانات متقاتلة. تلك النظريات لم تبق داخل الكتب فقط، بل خرجت إلى حيز التنفيذ، بهدف شلّ دور الدولة المركزية لصالح بيئات قتال طائفي مفتوح.
جميع هذه العوامل تسهم طبعاً في تفرغ المنطقة من مكوناتها التاريخية ومنهم المسيحيين.
أما الكذبة الكبيرة التي تزعم بها (إسرائيل) بأنها حامية (للأقليات) فأن الأحداث تظهر عكس ذلك تماماً فاستمرار الاحتلال، وتهويد القدس، والاعتداءات على الضفة والقطاع، كلها اضطرابات تمس الوجود المسيحي الفلسطيني.
إن تفكيك المشرق بهذا الشكل، وتهجير مسيحييه يصب طبعاً بمصلحة المشروع (الإسرائيلي) والذي يسعى إلى إقامة محيط ضعيف هذا ان لم نقل انه يسعى للسيطرة على كامل المشرق! وبالتالي سيعرض ذلك المنطقة إلى فقدان الهوية الحضارية الثقافية وهنا مكمن الخطر.
ثالثاً: المسيحيون هدف حتمي
إن هدف تهجير المسيحيين من منطقة المشرق ليس نتيجة للحروب والفوضى فحسب، بل القصد منه، اضعاف وشل عمل الدولة المركزية ومحاربة المجتمع، فكيف يُعقل لمثل هذه السياسات أن تقنع العالم بأنها «حامية للأقليات» بينما هي تغرق في الفوضى، وعدم الاستقرار، والقتل والتهجير والمشاكل اقتصادية الأمر الذي يجعل عامل الهجرة الخيار الوحيد.
الخاتمة:
المشكلة ليست مسيحية محمدية، بل هي في المشروع التفتيتي التدميري لمنطقة المشرق وإعادة رسم خرائط أسوأ وأحط من سايكس-بيكو، لآنه عندما تضعف الدولة المركزية، سيتراجع الوجود المسيحي حتماً وتتفاقم الفوضى الديموغرافية، وعليه، فإن حماية الوجود المسيحي ليست بالحماية الانترنسونية، بل عبر إعادة بناء الدولة المركزية وحماية وتحصين المجتمع والعمل على استعادة الهوية المشرقية الجامعة والتي تُعد الضامن الرئيسي للجميع.
انطلاقاً من هنا تأتي زيارة البابا Leo XIV إلى لبنان بوصفها «رسالة سلام وأمل» ورفض العنف، ونحن إذ نرحب بهذه الزيارة، لا بد أن نلفت بأن السياسات الأمريكية – الإسرائيلية تعمل على تفكيك المجتمعات المشرقية وإلى إشاعة الفوضى تمهيداً لتهجير آخر مسيحي في هذا المشرق، فعسى تؤدي الزيارة والدعم الدولي الواسع إلى عملية ضغط دبلوماسي حقيقي يوقف الخطط الجهنمية المرسومة على منطقتنا، وإلا سوف تندفع الأمور إلى مزيد من الاقتتال والتهجير.

