من الغريزة الفردية إلى الوعي بـ “النحن”

تُعدّ العلاقة بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة من أعمق الإشكاليات التي تواجه المجتمعات الحديثة. فالاعتقاد الشائع بأنّ للفرد مصلحة يمكن أن تزدهر بمعزل عن المصلحة العامة ليس سوى وهمٍ يناقض طبيعة الحياة الاجتماعية. فالفرد، مهما بدا مستقلًا، لا يمكن أن يُقيم مصالحه من دون بنية عامة توفّر الأمن والصحة والتعليم والاقتصاد المستقر.

وهم الفردانية وسقوط الدائرة الضيقة

يرتبط الإنسان، في مستواه الغريزي الأولي، بدائرته الصغيرة: عائلته وأطفاله ومحيطه القريب. ويظنّ أنّ حماية هذه الدائرة تكفي لضمان مصلحته. غير أنّ التجربة التاريخية أثبتت أنّ هذه الدائرة نفسها لا يمكن أن تُحفظ دون الإطار الأوسع الذي يحتويها: المجتمع.

فالأسرة لا تنجو في بيئة بلا أمن، ومستقبل الأبناء لا يمكن فصله عن نظام تربوي وطني، ورفاهية الفرد لا يمكن تحقيقها داخل اقتصاد منهار. ما نسميه «مصلحة شخصية» هو في الحقيقة صورة من صور المصلحة العامة، لأن كل ما يحمي الفرد ويمنحه الفرص إنما يصدر عن مؤسسات الدولة ونسيج المجتمع.

روّجت النيوليبرالية لفكرة «أنجُ بنفسك»، لكن الوقائع أثبتت أن الفرد لا يستطيع بناء جزيرة خاصة فوق بحر من الفوضى. كل حصن فردي يسقط حين ينهار الجدار الأكبر: المجتمع.

المصلحة العامة شرط إمكان المصلحة الفردية

ليست المصلحة العامة مجرد قيمة معنوية؛ إنها البنية التي تُنتج الشروط الموضوعية لازدهار الفرد. فالثروة الفردية بلا قيمة في دولة منهارة، والأمان الخاص بلا معنى إذا تلاشى الأمن العام، والتعليم الخاص الذي يُبنى في ظل دولة فاشلة ينهار عند أول هزة.

ولهذا فإنّ السلوكيات التي تُغلّب الإثراء الشخصي على حساب المصلحة العامة — مثل نهب المال العام أو إضعاف مؤسسات الدولة — لا تشكّل مكسبًا للفرد، بل خسارة بعيدة المدى. فالفرد الذي ينهب الوطن يدمّر البيئة التي سيعيش فيها أولاده، ويقوّض الأسس التي تقوم عليها أي عملية تراكم اقتصادي حقيقي.

إنّ الاستثمار في سلامة الدولة هو الاستثمار الوحيد الذي يورِّث الأبناء مستقبلًا، بينما الإثراء غير المشروع لا يورث سوى الفوضى والاغتراب وفقدان الوطن.

أوهام الذكاء الفردي ونتائج الغباء البنيوي

المفارقة أنّ مَن يعتقد أنه «الأذكى» بقدرته على جمع الثروات على حساب المصلحة العامة هو في الواقع الأكثر جهلًا بطبيعة المصالح الحقيقية. فقد ورّث كثير من هؤلاء أبناءهم دولًا منهارة، فوجدت الأجيال الجديدة نفسها مهاجرة تبحث عن أمن وفرص لم يعد الوطن قادرًا على توفيرها.

وهكذا يتكشف أن «الدهاء الفردي» ليس إلا غباءً استراتيجيًا يدمّر المصلحة الخاصة نفسها.

من الفردانية الغريزية إلى الوعي بـ «النحن»

تجد هذه المعضلة تفسيرها الأعمق في فكر أنطون سعاده، الذي قدّم مفهوم “الوعي بالنحن” بوصفه نقلة معرفية من الفردانية الغريزية إلى الفرد الاجتماعي. فـ”النحن” لا تلغي الفرد، بل تمنحه إطارًا يصبح ضمنه قادرًا على الارتقاء.

يرى سعاده أن الإنسان يمر بمرحلتين:

  1. مرحلة غريزية يرى فيها ذاته محصورة بعائلته ومصلحته المباشرة؛
  2. مرحلة اجتماعية–قومية يدرك فيها أنّ الذات الفردية لا تكتمل إلا داخل مجتمع منظّم ذي مصلحة مشتركة ومصير واحد.

بهذا المعنى، لا يكون الوعي بالنحن شعارًا أخلاقيًا، بل ركيزة بنيوية تضع الفرد داخل شبكة انتماءات تحفظ مصالحه بدل أن تتركه في عزلة عاجزة. يقول سعاده:
 «الفرد في المجتمع، والمجتمع في الأمة، والأمة في الدولة»
 وهذا التسلسل يوضح كيف تتكوّن المصلحة الفردية من داخل المصلحة العامة، لا خارجها.

الفردانية او «النزعة الفردية» كمأزق بنيوي يدمّر المصلحة الخاصة

اعتبر سعاده أنّ أخطر ما يواجه المجتمعات المتعثرة هو النزعة الفردية التي تفصل الفرد عن الجماعة وتحول الوطن إلى غنيمة. فحين تتحول المؤسسات العامة إلى مزارع خاصة، والثروة الوطنية إلى مجال للمضاربات الشخصية، يتفكك المجتمع وتنهار الثقة وتُقوَّض كل إمكانية للنهوض.

والفرد الذي يظن أنه يربح في ظل هذا الانهيار هو في الواقع الخاسر الأول. لأن الفردانية المتفلتة لا تدمّر المجتمع فقط، بل تقطع كل فرد عن مصدر قوته وازدهاره.

لذلك، اعتبر سعاده أن التحرر من الفردية ليس قيدًا على الحرية، بل تحريرًا للقدرات الفردية ضمن مشروع نهضوي قادر على حماية مصالح الأفراد عبر الزمن.

لا مصلحة فردية خارج المصلحة العامة

عندما نفهم أنّ المصلحة الفردية لا تتحقق إلا عبر المصلحة العامة، نكون قد انتقلنا من مستوى الوعي الغريزي إلى مستوى الوعي الاجتماعي–القومي.

حينها يصبح:

  • خير المجتمع = خير الفرد
  • تقدّم الجماعة = تقدّم العائلة
  • نهضة الدولة = ضمان مستقبل الأبناء

فالوعي بالنحن لا يُضعف الفرد، بل يمنحه ذاتًا أكبر وأعمق من حدوده الخاصة.

إنّ حقيقة الترابط بين الخاص والعام ليست سوى ترجمة لما عبّر عنه أنطون سعاده منذ عقود :لا قيام للفرد إلا بقيام المجتمع، ولا ارتقاء للفرد إلا بنهضة الأمة، ولا معنى للـ«أنا» خارج الوعي بـ«النحن».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *