سعاده في مواجهة الخيانة الفكرية

سعاده في مواجهة الخيانة الفكرية: تحليل الأنماط والأبعاد

تشكل الخيانة الفكرية في فكر أنطون سعاده أعلى درجات الخيانة خطرًا، فهي تمثل في الوقت ذاته هجومًا على العقل الجمعي للأمة وتسميماً للمنابع الفكرية للنهضة. ولأنها كذلك، يرى سعاده أن هذه الخيانة أخطر من الخيانة العسكرية، لسبب جوهري هو أنها «تضرب الأساس النظري الذي تقوم عليه النهضة» في صميمه. وهذا الحكم ينطلق من مبدأ راسخ في فكره، مؤداه أن أي تحريف أو تشويه للمبادئ الأساسية يمثل خيانة للفكرة في صميمها، وهو مبدأ يستند إلى تقديسه لصفاء العقيدة القومية الاجتماعية.

الأنماط الرئيسية للخيانة الفكرية:

  1. الخيانة بالتحريف والتبديل:

تمثل هذه الصورة الشكل المباشر للخيانة الفكرية، من خلال تحريف المبادئ الأساسية أو استبدالها بعقائد منافسة. ويتجلى هذا النمط في حالتين رئيسيتين:

  • المروق الصريح: كما في حالة تسعة من أعضاء الحزب في «لبندا» بالأرجنتين، الذين أعلنوا انسحابهم بعد استقلال لبنان معترفين بأن ذلك كان «كل مطلوبهم». في رده عليهم في مقال «المروق من القضية القومية الاجتماعية»، يشخّص سعاده جوهر الخيانة في كسر «يمين الحزب»، مؤكّدًا أن «الذين يحلفون يمين الحزب وفي نفوسهم الاستعداد لمخالفتها والانقلاب عليها هم خائنون أولاً، والخائنون أولاً لا يمكن إلا أن يكونوا خائنين آخراً، وليس للخائنين من آخرة غير الذل.»[1]

وفي رده عليهم يقول سعاده:

(إذا كان «استقلال لبنان» هو «كل مطلوب» تلك الفئة المارقة فلماذا دخلت الحزب السوري القومي وكانت في عداد أعضائه؟ هل كان ذلك من قبيل المكر والخداع أو من قبيل الخيانة لغاية «استقلال لبنان»؟ فإذا كان من باب المكر والخداع فأية قيمة ثابتة لما تعلنه فئة ماكرة خادعة؟ وإذا كان من قبيل الخيانة للبنان فالخائنون أولاً قد صاروا خائنين ثانياً، صارت خيانتهم مضاعفة.)[2] ويضيف:

“الحقيقة أن جميع الأدلة والبراهين تثبت خيانة الأشخاص أصحاب منشور «الانسحاب من الحزب السوري القومي». فللحزب السورى القومي يمين يحلفها كل طالب الانضمام إلى صفوفه، وهذه اليمين تنص على كمال مبادىء الحزب وغايته وعلى الإخلاص لهذه المبادىء وهذه الغاية. والمبادىء والغاية واضحة كل الوضوح ومطبوعة ومنشورة في كراريس وصحف عديدة. والذين يحلفون يمين الحزب وفي نفوسهم الاستعداد لمخالفتها والانقلاب عليها هم خائنون أولاً، والخائنون أولاً لا يمكن إلا أن يكونوا خائنين آخراً، وليس للخائنين من آخرة غير الذل.«[3]

وبتاريخ 25 فبراير/شباط 1940، أصدر الزعيم مرسوماً بطرد السيدين رشيد شكور ونديـم شحفي (في سان باولو البرازيل)، بناءً على تقارير الإدارة هناك بانفلات الأول من النظام الـحزبي وعمله لـمآربه الـخصوصية، وبخيانة الثاني الـمبدأ القومي وحنثه بيمينه.[4] وتضمن المرسوم توجيهات سعاده بوجوب مقاطعة الـمطرودين مقاطعة كلية من قِبل جميع القومييـن في جميع الشؤون والـمعاملات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومحاربتهم في جميع مشاريعهم وأعمالهم التي لها علاقة بالـمسائل العامة، ويكون على القومييـن واجب تـحذير الرأي العام من مفاسدهم ومقاصدهم السيئة لكي لا يظل الشعب غافلاً عن مآربهم ومنقاداً بعماوة إلى شعوذاتهم.[5]

استبدال العقيدة: وهي الصورة الأكثر خطورة، حيث يتم استبدال العقيدة الأصلية بأخرى منافسة مع البقاء الشكلي تحت مظلة الحزب. وهذا ما يميز حالة شقيقه إدوار سعاده، الذي تحول إلى «عربي قومي» دون أن يطلب الحل من قسمه، مما دفع سعاده إلى الإعلان بأن «الجمع بين ولاءين خيانة لقضيتين.»[6]

  • الخيانة بالتزييف والانتحال:

في هذا النمط، يتحول الالتزام إلى أداء شكلي مجوّف يخفي خواءً فكرياً. وتتجلى هذه الخيانة في حالة نعمة ثابت الذي حاكى تعاليم سعاده «محاكاة الببغاوات»[7] دون فهم جوهري، فانقلب من متبّع إلى منافس مفسد. هنا، تصبح الخيانة انتحالاً للشكل وفراغاً من المضمون.[8] كما تتجلى هذه الخيانة في كتابات جبران مسوح القومية التي لم يراع فيها الأمانة الصحيحة لحقوق الفكر والمفكرين. يقول سعاده: «إنّ الأمانة توجب أن يشير الكاتب إلى كل فكر وكل قول وكل تعبير ليس له وإلى صاحبه.»[9] ولكن في الواقع، يضيف سعاده: «أنّ معظم التفاصيل الفكرية الهامّة التى شحن بها جبران مسوح مقالاته القومية، هي أفكار وشروح اقتبسها من أحاديث الزعيم ومحاضراته غير المنشورة والمنشورة من غير إشارة إلى المصدر الذي اقتبس عنه.»[10]

  • الخيانة بالتمييع واللبس:

وهي خيانة تتم عبر إفقاد الوضوح الفكري من خلال «الغموض المتعمد» و«اللبس المفاهيمي». يظهر هذا في رسائل سعاده العديدة التي يحذر فيها من الغموض ويؤكد على «الوضوح الفكري» كشرط أساسي للعمل الثوري المنتج.

  • الخيانة بالأنانية والاستعلاء:

حيث تتحول الفكرة الجماعية من إطار للتضحية إلى أداة للتميز الشخصي، فيصبح الالتزام «استعلاء فردياً» بدلاً من كونه «تضحية جماعية». يكشف سعاده عن هذا النمط الخفي في نقده اللاذع لـ «مدرسة الأنانية ومحبة الذات»، التي ترفع من شأن الفرد على حساب الجماعة، فتجعل من شخصيته «القيمة العليا والمركز الوجودي المطلق». هذه المدرسة لا تكتفي بتمجيد الذات، بل «تدعو للتمرد على واجبات المجتمع»، مؤسِّسةً بذلك لولاء مطلق للأنانية يتجاوز ولاء الفرد لمجتمعه وقضيته.

وتجد هذه الخيانة تعبيرها التنظيمي فيما يصفه سعاده في رسالته إلى يوسف الغريب (15/01/1942) بأنه «تلاعب بالنظام وبالعقيدة وبالمبادئ لتحقيق أغراضهم الشخصية.[11]» هنا لا يكتفي الخائن بالاستعلاء الفردي، بل يحوِّل أدوات النظام والمبادئ إلى أسلحة لتحقيق مآرب شخصية، فيتحول الانتماء إلى الحزب من خدمة للقضية إلى وسيلة للترقي الأناني. هكذا تتحول الخيانة من فعل صريح إلى «فلسفة وجودية» تبرر وضع القضية الشخصية فوق قضية المجتمع، مما يجعلها من أخطر أشكال الخيانة الفكرية لبساطتها وتلبسها ثوب “التحرر الفردي”.[12]

  • الخيانة بالانهزام واليأس:

تمثل الانهزامية واليأس أشدّ صور الخيانة خطراً، فهي “خيانة النفس” التي تبدأ بفقدان الثقة بقدرة الأمة، مما يؤدي إلى تدمير الإرادة من الداخل قبل أن ينهزم الجسد في مواجهة العدو. وقد حذّر سعاده من هذه «الروح الانهزامية» في محاضراته، مبيناً في «المحاضرة الأولى في الندوة الثقافية» انه لو بقيت الانحرافات التي نشأت في الحزب أثناء غيابه فاعلة «لوصلنا إلى انعدام الثقة بأنفسنا وإلى الشك في مقاصدنا وطبيعتنا وحقيقتنا.»[13] ويرى سعاده أن جذور هذه الخيانة تعود إلى أدباء الجمود والفناء الرجعيين الذين يبثون أفكار اليأس والضعف، وإلى ما انتجته ثقافة الاستعمار من «طبقة مثقفة خالية من المثال الأعلى القومي، مجرّدة من الثقة بمواهب الأمة السورية الممتازة، معترفة بعدم جدارة السوريين بالتشوق إلى السيادة القومية، مقتنعة بأن الحال الراهنة أمر إلهي أو طبيعي لا مندوحة عنه.»[14]

في مواجهة هذا التيار، أكَّدَ سعاده أن مبدأه «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة» جاء ليحرر النفسية السورية «من قيود الخوف وفقدان الثقة بالنفس والتسليم للإرادات الخارجية.» لذلك دعا إلى الإيمان «بنفوسنا قبل كل شيء»[15] وأعلن أن مشروعه يعني «بناءً جديداً… إعادة النفسية السورية الصحيحة إلى الأمة، إعادة الثقة والإيمان بالنفس إلى هذه الأمة التي فقدتها.»[16]

يتبع


[1]  أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد، “المروق من القضية القومية الاجتماعية”، الزوبعة، بوينُس أيرس، العدد 82، 4/11/1944.

[2] المرجع ذاته.

[3] المرجع ذاته.

[4]  أنطون سعاده، الأعمال المصنفة – مجلد تاريخ الحزب (الجزء الأول)، تعميم إلى اللجنة المفوضة للبرازيل، 3/05/1940.

[5] المرجع ذاته.

[6] أنطون سعاده، الأعمال المصنفة، مجلد “في التوجيه والإدارة”، من رسالة “إلى إدوار سعاده” المؤرخة في 7/4/1949.

[7] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، “نعمة ثابت بطل الخيانة”، نشرة عمدة الإذاعة، بيروت، المجلد 3، العدد 4، 15/8/1947.

[8] المرجع ذاته.

[9] نسر الزعامة السورية القومية ووحل تكمان وذبابها (2).

[10] المرجع ذاته.

[11] إلى يوسف الغريب، 15/01/1942.

[12] راجع مقال “مدرسة الأنانية ومحبة الذات تعاليمها الفوضوية الغريبة”، منشور باسم هاني بعل في النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد، أ، العددان 3 و4، 15/12/1947. راجع الأعمال الكاملة، المجلد الثامن.

[13] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، بيروت، ص 21.

[14] أنطون سعاده، “شق الطريق لتحيا سورية”، الجمهور، بيروت، السنة 1، العدد 41، 12/07/1937.

[15] أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 21.

[16] المرجع ذاته، ص 167.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *