يوماً بعد يوم تُظهر الوقائع وبالأرقام آثار العزلة الدولية لا سيما الأوروبية منها على الكيان الصهيوني. وحيث لم تؤت بنتائج لافتة خلال السنوات السابقة، أثبتت المقاطعة لا سيما الأوروبية منها خلال السنتين الماضيتين خلق واقع جديد ترك آثاره على الكيان الصهيوني على العديد من الصعد وباعتراف وسائل إعلامه نفسها.
فبينما حاولت حكومة العدو إقناع جمهورها بأن عصر المقاطعة وتأثيراتها قد ولّى وأن الأمور عادت إلى طبيعتها، يتضح اليوم أن المقاطعة تعمقت وازدادت. نجدها تتوسع بهدوء لا سيما الأوروبية منها بعدما سقط قناع الكيان الصهيوني وكشف عن وجهه المجرم.
من الرياضة والثقافة إلى الأكاديميا والبحث العلمي وحتى التبادل التجاري، أرقام مقاطعة «اسرائيل» تكشف المستور. وعلى قول «وقد شهد شاهد من أهله»، تُظهر وسائل إعلام العدو آثار المقاطعة فترصد تنامي عزلة كيانه منذ بداية الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأن الحملات الشعبية العالمية التي تدعو إلى مقاطعة المنتجات والشركات التي تدعم إسرائيل، دفعت بعض الشركات الكبرى مثل كوكاكولا وستاربكس للاعتراف بتأثيرها. ووفقاً لصحيفة «غلوبس» وبنك «اسرائيل» فإن الخسائر الناجمة عن المقاطعة الاقتصادية تبلغ 24 مليار دولار.
على الصعيد الأكاديمي ووفق صحيفة ذا ماركر «الاسرائيلية»، تصاعدت المقاطعة الأوروبية الأكاديمية بنسبة 66 في المئة، وتراجعت مشاركة «اسرائيل» في البحث العلمي الأوروبي بنسبة 5،68 في المئة، فيما أوقفت 60 جامعة تعاونها مع «اسرائيل»، وتراجع التعاون البحثي الدولي بنسبة 21 في المئة، وانخفض تسجيل الأجانب في الجامعات «الاسرائيلية» إلى 50 في المئة. وبالتالي تشهد المؤسسات الأكاديمية «الإسرائيلية» تراجعاً غير مسبوق في تعاونها الدولي عقب الحرب على غزة. ووفق بيانات برنامج «هورايزون أوروبا» (برنامج بحثي يتبناه الاتحاد الأوروبي) فقد سجل عام 2025 أدنى مستوى من المشاريع البحثية المشتركة مع «إسرائيل» منذ انضمامها إليه. وقد تنوعت أشكال المقاطعة الأكاديمية في العالم لتشمل رفض نشر مقالات أو بحوث لباحثين إسرائيليين، تأجيل أو إلغاء مشاركاتهم في مؤتمرات ومحاضرات دولية في إدانة شديدة لسياسة العدو في غزة، تعليق أو إنهاء شراكات بحثية بين مؤسسات أجنبية و«إسرائيلية». كما سُجل انخفاض ملحوظ في التمويل الأوروبي لمشاريع علمية تضم شركاء من «إسرائيل»، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا والعلوم الاجتماعية. وحسب تقرير صادر عن مجلس رؤساء الجامعات «الإسرائيلية»، تُقاطع عشر جمعيات أكاديمية أوروبية «إسرائيل»، مضيفاً أن
عدد حالات المقاطعة الأكاديمية المُبلّغ عنها منذ بداية الحرب بلغ حوالي ألف حالة، ربعها سُجّل في الصيف الماضي. في الوقت نفسه، وصل عدد تقارير المقاطعة الأكاديمية إلى ألف تقرير منذ بداية الحرب، وتتركز هذه الحالات بشكل رئيسي في أوروبا الغربية لا سيما بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا.
ويقول أحد الصحافيين الاسرائيليين أن المعطيات تظهر أن «المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل لم تعد ظاهرة ظرفية مرتبطة بالصراع الحالي، بل تحولت إلى نهج مؤسسي ومنهجي يمتد عبر القارات»، مضيفاً أنه على الرغم من استمرار الإنتاج العلمي «الإسرائيلي» من حيث الكم فإن «نوعية التعاون والشراكات الدولية تشهد انكماشاً حاداً، مما يُنذر بتآكل المكانة الأكاديمية لإسرائيل على المدى المتوسط، ويضعها أمام عزلة علمية متزايدة تعكس فقداناً تدريجياً لشرعية حضورها في الفضاء البحثي العالمي.
في الثقافة والفن، تحولت موجة المقاطعة ضد «اسرائيل» تدريجياً إلى ظاهرة عالمية متصاعدة ووفق صحيفة هآرتس، وقّع آلاف الفنانين والكتّاب والموسيقيين والمخرجين حول العالم عرائض تدعو إلى مقاطعة «اسرائيل» ثقافياً، متهمين مؤسساتها بـ«ممارسة الفصل العنصري« و«انتهاك حقوق الإنسان» في غزة. وعلى صعيد آخر سحب 400 فنان وشركة أعمالهم من المنصات «الاسرائيلية»، وأطلق المئات حملة «لا موسيقى للإبادة»، وسُجل انسحاب جماعي من مهرجان في أستراليا رفضاً لمشاركة «اسرائيل».. وتجلت المقاطعة في رفض العديد من الفنانين والمثقفين المشاركة في فعاليات تقام داخل الكيان الصهيوني، أو التعاون مع مؤسسات «إسرائيلية» رسمية. وشهدت بعض المهرجانات الثقافية انسحابات فردية وجماعية أدت إلى إلغاء فعاليات كاملة أو نقلها إلى دول أخرى. وإلى جانب ذلك، أصبحت المؤسسات الفنية والثقافية الدولية أكثر حذراً في استمرار شراكاتها أو تمويلها لمشاريع «إسرائيلية» خشية من حملات «منع الاستثمارات» أو المقاطعة الجماهيرية التي تتسع رقعتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
حتى على مستوى علم الآثار، ووفقاً لصحيفة هآرتس، رفضت الجمعية الأوروبية للآثار مشاركة «اسرائيليين» بمؤتمرها، وألغت بعثات التنقيب الدولية زياراتها إلى «اسرائيل».
موجة المقاطعة العالمية انعكست أيضاً على الميدان الرياضي ووفقاً لمصادر صحيفة يديعوت أحرونوت أُطلقت حملة «اللعبة انتهت يا اسرائيل» ضد الاتحاد «الاسرائيلي» لكرة القدم، وتم تقييد عقد البطولات الرياضية في كيان العدو. وتصاعدت الضغوط على الهيئات الدولية مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» واللجنة الأولمبية الدولية، لتعليق عضوية «إسرائيل» أو تقييد مشاركاتها في المنافسات الدولية.
ومع مرور الوقت، بدأت هذه الضغوط تأخذ طابعاً أكثر تنظيماً ومؤسساتية، مدفوعة بالحملات الحقوقية والاحتجاجات الشعبية في أوروبا وأميركا اللاتينية، فقد ألغيت هذا العام بطولة أوروبا للجمباز الفني التي كانت مقررة في «إسرائيل»، كما نُقلت بطولة أوروبا لكرة الماء إلى خارجها لأسباب «أمنية وأخلاقية». من جهة أخرى تزايدت حالات رفض مئات الرياضيين الدوليين المشاركة في فعاليات تقام داخل «إسرائيل»، كما أقدمت عشرات الأندية الأوروبية على إلغاء تعاونها الرياضي مع فرق «إسرائيلية».
من هنا من الواضح أن الاقتصاد «الإسرائيلي» وباعتراف العدو يواجه ضغوطاً متزايدة. وقد غيرت فترة عامي الحرب على غزة المعادلة وأدت إلى تراجع الاستهلاك المحلي، وانخفاض الصادرات، وتراجع الاستثمارات الأجنبية. وقد استهدفت حملات المقاطعة عدداً من العلامات التجارية الدولية المتهمة بدعم «إسرائيل»، مما دفع بعضها إلى بيع أصولها داخل الكيان.
إذن باتت المقاطعة ظاهرة عالمية متشابكة تمس كافة مناحي الحياة في الكيان الصهيوني. وبالتالي فإن العزلة تتعمق عاماً بعد عام، والصورة السلبية لكيان العدو في أوروبا قد ترسخّت، مما يعكس تحولاً في المزاج الدولي تجاه سياساته في الأراضي الفلسطينية.

