نجمة الهلال في فكّي الكمّاشة؛ ترسيمُ الخطيئة بين لبنان وقبرص وأطماع «الذئبين» التركي والإسرائيلي

في خضمّ التحولات الجيوسياسية العاصفة التي تضرب المشرق، يأتي توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص ليكشف عن عمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها كيانات الهلال الخصيب. هذا الحدث، الذي يُسوَّق له في الأروقة السياسية الضيقة في بيروت كإنجاز دبلوماسي لحكومة الرئيس نواف سلام، يحمل في طياته، عند إخضاعه لمشرط التحليل العلمي والنظرة القومية الاستراتيجية، كأنذار بتفريطٍ خطير بالسيادة القومية، ليس فقط على الموارد الغازية والنفطية، بل على الموقع الاستراتيجي للأمة السورية برمّتها في حوض المتوسط الشرقي

. إننا اليوم أمام مشهد يعيد رسم خرائط النفوذ فوق جسد «الهلال الخصيب» الممزق، حيث تتكالب الأطماع التركية ـ العثمانية الجديدة واليهودية ـ الصهيونية لنهش ما تبقى من مقدرات هذه الأمة، مستغلةً حالة التجزئة والوهن التي كرستها اتفاقيات سايكس ـ بيكو وما تلاها.

أولاً: قبرص «نجمة الهلال» أم قاعدة العدوان؟

لا يمكن فهم خطورة ما جرى اليوم من ترسيم منفرد بين لبنان وقبرص، بمعزل عن الحقائق الجغرافية والتاريخية التي أرساها أنطون سعاده. فقبرص، أو «نجمة الهلال السوري» كما يحلو للقوميين الاجتماعيين وصفها، ليست مجرد جزيرة نائية في المتوسط، بل هي، جيولوجياً واستراتيجياً، الامتداد الطبيعي للرصيف القاري السوري. إن الدراسات الجيوفيزيائية وتضاريس قاع البحر تثبت أن قبرص هي قمة لسلسلة جبلية مغمورة ترتبط عضوياً باليابسة الشامية. وبالتالي، فإن أي عبث بحدودها البحرية أو تحويلها إلى منصة معادية، هو تهديد مباشر للعمق الاستراتيجي لسورية الطبيعية من (جبال طوروس شمالاً إلى قناة السويس جنوباً).

توقيع اتفاقية الترسيم اليوم، استناداً إلى مسودة عام 2007 التي كانت قد رُفضت سابقاً لغبنها الحقوق اللبنانية، يمثل انسلاخاً للبنان عن محيطه القومي الطبيعي، وارتهانًا لمحاور لا تخدم مصلحة الأمة. فبعد سقوط تجاوز دمشق بيد أردوغان والتي تشترك بحدود بحرية مع كل من لبنان وقبرص وتركيا، يُعدّ ضربا لمفهوم «وحدة المصير» و”وحدة الأمن القومي» في الصميم. فبدلاً من أن يكون الترسيم جزءاً من استراتيجية سورية موحدة تشمل لبنان والشام لمواجهة الأطماع الخارجية، جاء ليُكرس انعزال لبنان بعد أن سقط عمقه الإستراتيجي ـ الكيان الشامي.

ثانياً: «الميثاق الملي» الجديد: الأطماع التركية في المتوسط

على المقلب الآخر، تبرز ردة الفعل التركية الغاضبة لتكشف عن الوجه الآخر للصراع. ف”الاستياء المكتوم» في أنقرة، والحديث عن «نكث الوعود»، لا ينبع من حرص تركي على مصلحة لبنان، بل من عقيدة «الوطن الأزرق» التوسعية. تركيا، التي لا تزال تحتل لواء إسكندرون السليب وتتغلغل عسكرياً في الشمال السوري والعراقي، تنظر إلى شرق المتوسط كبحيرة عثمانية يجب استعادتها.

علمياً، تحاول تركيا فرض خرائط بحرية تتجاهل حقوق الجزر مثل قبرص في الجرف القاري، لتمديد نفوذها البحري حتى مشارف المياه الليبية والمصرية، قاطعةً الطريق على أي تواصل بحري بين دول الهلال الخصيب وأوروبا إلا عبر «البوابة التركية”. إن اعتراض تركيا على الترسيم اللبناني ـ القبرصي اليوم ينطلق من خشيتها من أن يؤدي هذا الاتفاق إلى محاصرة نفوذها البحري، وتقوية المحور (اليوناني ـ القبرصي ـ الإسرائيلي.) وهنا تكمن المفارقة؛ فلبنان بتوقيعه هذا الاتفاق، وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع «الغول التركي» دون أن يمتلك أوراق قوة، وبدلاً من أن يحتمي بعمقه الشامي الذي سقط، ارتمى في أحضان اتفاقيات قد تجعل منه ورقة مساومة في صراع الأفيال. إن الأطماع التركية لا تقتصر على الغاز، بل تتعداها إلى الرغبة في خنق الهلال الخصيب بحرياً بعد أن خنقته برياً عبر السدود (مشروع الغاب) والاحتلال المباشر، مانعةً إياه من التنفس بحرية عبر رئته المتوسطية.

ثالثاً: الخطر الوجودي: السرطان الإسرائيلي والغاز المسروق

إن المستفيد الأكبر، والصامت الأكبر في آنٍ واحد مما يجري اليوم، هو العدو الإسرائيلي الذي ينظر إلى ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص كحلقة ضرورية لاستكمال مشروعها للهيمنة على غاز شرق المتوسط وتصديره إلى أوروبا مشروع «إيست ميد» أو بدائله.

 إن تثبيت الحدود اللبنانية ـ القبرصية وفق الإحداثيات (لتي يتنازل فيها لبنان عن مساحات شاسعة مقارنة بالخط 29)، يُريح الكيان الصهيوني من «الصداع» القانوني في المناطق المتنازع عليها شمالاً، ويمنحه شرعية غير مباشرة لعمليات النهب المنظم للغاز الفلسطيني والسوري واللبناني.

من منظور علمي واقتصادي، إن التسرع اللبناني في الترسيم يخدم «الأمن الطاقوي» «لإسرائيل.» فهذا العدو بحاجة ماسة لاستقرار الحدود البحرية لضمان تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى حقوله المسروقة (كاريش وليفيات.) علاوة على ذلك، فإن تحييد قبرص وجعلها «شريكاً» كاملاً في الترسيم مع لبنان وإسرائيل، يحول هذه الجزيرة الاستراتيجية إلى «حاملة طائرات» متقدمة لحماية المصالح الصهيونية، بدلاً من أن تكون درعاً لسورية

. إن الخطر «الإسرائيلي «هنا ليس مجرد طمع في ثروة غازية، بل هو مشروع لتطويق «سورية الطبيعية» من البحر، بعد أن تم تطويقها من الجنوب، فلسطين) والشرق (الضغط على العراق) والشمال (تركيا). إن القبول بمنطق التسويات الجزئية هو قبول بمنطق تفتيت الحق القومي.

رابعاً: الحاجة إلى استراتيجية قومية موحدة

إن قراءة هذا الحدث بلغة الأرقام والوقائع الجيوسياسية تقودنا إلى استنتاج واحد لا لبس فيه: إن الكيانات السورية (لبنان، الشام، العراق، الأردن، الكويت، وقبرص) عاجزة منفردة عن حماية ثرواتها وسيادتها أمام الفكّين التركي والإسرائيلي.

إن الحل العلمي والعملي يكمن في العودة إلى مبدأ «وحدة المصير”. لو تفاوض لبنان وسورية ككتلة بشرية وجغرافية واحدة، لكان بإمكانهما فرض شروط تضمن الحقوق الكاملة في المنطقة الاقتصادية الخالصة، وتلجم الأطماع التركية عبر التلويح بأوراق ضغط مشتركة (أمنية، تجارية، مائية)، وتواجه العربدة الإسرائيلية بموقف رادع موحد.

 ـ صراع الوجود لا صراع الحدود

ختاماً، إن ما جرى من توقيع لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص ليس مجرد إجراء تقني لترسيم خطوط وهمية فوق الماء، بل هو فصل جديد من فصول الصراع على هوية ومصير الهلال الخصيب.

 إننا أمام مشهد يتآكل فيه «الحق القومي» لصالح خرائط المصالح الاستعمارية. بين مطرقة «العثمانية الجديدة» التي تريد استعادة أمجادها على حسابنا، وسندان «الصهيونية» التي تبني وجودها على أنقاضنا، تقف كياناتنا المشتتة بلا بوصلة.

إن اللغة العلمية والبراهين التاريخية تؤكد أن لا نجاة للبنان، ولا لسورية، ولا لفلسطين، ولا للعراق، ولا حتى لقبرص، إلا بالوعي لحقيقة أن هذه الأرض،وحدة جغرافية وحضارية واحدة. إن الغاز الكامن في أعماق المتوسط هو ملك للأجيال القادمة من أبناء هذه الأمة، والتفريط به عبر اتفاقيات مشبوهة أو متسرعة هو خيانة عظمى. إن الرد القومي الاجتماعي على هذا التهافت يكون برفض منطق التجزئة، وبالعمل الدؤوب لتوحيد الجبهة القومية، ليعود المتوسط كما كان عبر التاريخ… بحراً سورياً، وتعود قبرص نجمةً ساطعة في هلالنا، لا خنجراً في خاصرتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *