لا يزال مفهوم «العالمانية» المشتق أسمه لغةً، من العالم، وليس من العلم كما هو شائع في لفظة «العلمانية» بالمقارنة مع «العالمانية»، التي هي الصواب، ولكن مفردة العلمانية سادت، تحت مقولة الخطأ الشائع أحسن من الصواب النادر، لغةً.
وفي هذا شيء من خصلة التمسك بالخطأ وكأنه فضيلة ومنفعة، وهذا ما جعل من «العالمانية»، مفهوماً مجهولاً تماماً، حتى على العالمانيين أنفسهم، فلفظة العالمانية ( كلفظة فقط) أوجدها راهب مصري قاصداً فسططة عالمين، هما داخل الدير وخارجه، وبالتالي كأنها لفظة تدينية، ليبدو الدير كعالم موصول مع الآخرة، وخارجه مفصول عنها، وموصول مع الدنيا. وهما مسألتان من خارج موضوع الإيمان أو الكفر، فلا يمكن للمؤمنين أو الناس جميعها أن يكونوا داخل الدير، فالدنيا بحاجتهم وهم بحاجة إليها، والخروج من الدير ليس خروجاً عن الإيمان، المجال الأوسع للنفاق، خصوصاً بإعلان ممارسة التدين، إن كانت شعائراً، أم طقوساً، فليس لأحد أن يشق على قلب أحد، ولا أن يجبر أحدٌ هذا القلب على الاعتقاد أو عدمه، ومن هنا تأتي القيمة الواهية لخدمات رجال الدين، على الرغم من قدرتها على تخويف أكبر عدد ممكن من الناس، وبالتالي التحكم بهم وحكمهن. مهما كانت أعدادهم وميولهم المعرفية، وهذا ما يسمى عادة بإدارة الجهل، بأمور الدنيا كما هي موجودة أو مكتشفة، أو في طور التفكير والتفلسف.
الفكرة العالمانية انبثقت، ثم تهيكلت، ثم مورست في الكثير من البلدان، كحل وسيط لمعضلة الآخرة والدنيا، ولكن المشكلة الكبرى لدينا نحن سكان سوريا الطبيعية، هو تثريب الفكرة قبل أن نطلع عليها، لأن مصدرنا الشفاهي أمر بذلك، دون حوار أو جدل، أو وضع الفكرة كما هي على طاولة التشريح، وفي هذا تدليس معرفي خطير، ففكرة بهذه الشهرة، أهرقت بسببها دماء الكثيرين، لا يريد أحد وضعها على شاشة العرض، وقراءتها بشكل حقيقي، كما تقرأ معادلة الرياضيات، لا أحد يجرؤ على فعل ذلك، مع أنها موجودة ومعمول بها وناجحة، ولكن عالمنا الشفاهي لا يقبل إلا بمسموعياته، التي لا يمكن إعتبارها معرفة، تستطيع أن تنفع الناس، فأولويات الدير تنسخ أولويات الدنيا لدينا، دون تفكير أو إرادة.
على الذين يرفضون العالمانية، على أساس أنها كفر وتحلل جنسي وقانوني أن يعرفوا ما هي العالمانية موضوع السؤال أولاً، وعلى العالمانيون أن يكفوا عن تعريفها بصفات خيرية، فالعالمانية صارت إلى تكنولوجيا تؤسس لإدارة المجتمعات الناجحة، إنطلاقاً من المساواة وصولاً إلى غايات الإنسان الدنيوية المتمثلة بشرعة عالمية لحقوق الإنسان، التي يمكن رفضها والتحفظ عليها، بشرط دفع المستحقات المستقبلية لهذا الرفض وهذا التحفظ، الذي سار بالمجتمعات إلى دكتاتوريات و طائفيات، وفساد وإفساد، وفشل قومي عام. على الرغم من وجود دكتاتوريات تدعي العالمانية.
من الواضح أن رفض العالمانية يتكىء على رفض مبدأ الشعب هو مصدر السلطة، وعليه تقوم عملية إجتثاث الديمقراطية، كتربية مجتمعية، تسمح بإدماج التنوع المعرفي، في سياق المنفعة الوطنية، التي تدعو لجمع المجزء، ولكن البروباغندا الرعوية، تسوقها على أنها فساد أخلاقي يهز القيم المجتمعية، قبل تأسيس المجتمع، الذي يقوم على أسس عالمانية، وهكذا يتحكم اللامجتمع، في سكانيات تسعى إلى تغيير واقعها الدنيوي إلى الأفضل، بينما إدارة اللامجتمع تشده إلى قاع لا يعرف قراره، لنصل إلى نتيجة، هي أنكم أحرار بمصيركم، فإما أن تقرأو العالمانية كما هي، أو تحملوا عواقب المستقبل، واليوم يشهد المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي وهو في قبره على تلك العواقب التي تشبه الجمرات التي كلما أكثرنا النفخ عليها إزادت إلتهاباً.
العالمانية كما عرفها الفيلسوف المصري مراد وهبة هي ( التفكير بالنسبي على أنه نسبي ) وهو عنوان عريض، يأتي كمقدمة للتفكير في حلول ناجعة لمعضلات العيش على الكرة الأرضية، ففصل الدين عن الدولة ( ربما فصل الدولة عن الدين أنجع تعبيراً) هو واحد من متفرعات التعريف أعلاه، وكذلك المساواة، والحرية، والعقد الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وبهذا تتعاكس معرفياً مع سمعتها في بلادنا ، على أنها نوع من التعهر، أو مصادرة الحاكمية، ومن هنا يمكن القول، لا دولة بلا علمانية، فهي تكنولوجية مثلها مثل السيارة والطائرة والكومبيوتر، إنها كمعادلة الكيمياء، باردة وحقيقية، يستطيع أي كان بناء منظومة حاكمة بقوة العنف والسلاح ( وهي مجربة في بلادنا السورية)، ويقدم نفسه على أنها دولة، ولكن في واقع الممارسة والاحتكاك مع الدنيا، سوف تنكشف وتفشل وتنهار، ولكن ليس على حسابها ، فهي سوف تهرب، وينهار السقف على الشعب.
العالمانية بما أنها تكنولوجية، ليست خياراً، ترفضها أو تقبلها، بل هي واقع، يبدو على شكل مخطط رياضي هندسي، يفيد في إقامة مجتمع مولد لدولة ناجحة. خصوصاً أن الذي نتبناه من تكنولوجيات تراثية، هزمت للآلاف المرات، ولما نزل نجربها، مبحرين في سواقي الفشل وبحار الدماء.

