الخيانة العظمى: الجريمة ضد كيان الأمة
أنواع الخيانة في فكر سعاده
الخيانة العظمى (الخيانة السياسية)
أولاً: المفهوم النظري – الجريمة ضد كيان الأمة
الخيانة الوطنية تُصنف بالخيانة العظمى وهي من أبشع صور الخيانة، لا يقوم بها إلا المُنحطّون والساقطون والسَفَلة. في الفكر القومي الاجتماعي، تمثل ما يُطلق عليه سعاده «الخيانة العظمى» أخطر أنواع الخيانة، فهي ليست مجرد خطأ تكتيكي، بل هي «جريمة» ضد كيان الأمة ووجودها، والخائن هو «الذي يبيع الوطن والإنسانية.»[1] تتجلى هذه الخيانة في التعامل مع العدو أو المساس بسيادة الأمة؛ كما تتجلى في تحوّل النخب الحاكمة والأحزاب السياسية الرجعية (اللابسة لباس التقدم) من خدّامين لمصالح أمتهم إلى أدوات طيّعة في يد الإرادات الأجنبية، فتُسَلم مقدرات الأمة وتُفرط بسيادتها. ويحلل سعاده هذه الآفة فيقول: «خدمة المطامع الأجنبية هي صفة من أقوى صفات السياسة النفعية. ولعل هذه النفعية المتفشية في جميع الدول السورية، التي لا تكل ولا تمل من الألاعيب المعيبة في سبيل أغراضها الصغيرة، هي أعظم بلايا الأمة السورية قوة وحيلة في الكيد للإرادة القومية العامة وفي تحطيم المصالح القومية لتنال بعض كسرها وشظاياها!»[2]
وهو يرى أن ضحيتها الأولى هو الشعب، حيث يعلن: «إننا حركة الشعب… إننا نحتقر الاستناد إلى النفوذ الأجنبي الذي يعتمده دهاقنة السياسة الرجعيون الإقطاعيون ليسخّروا الشعب للقضايا الغريبة ولا نعتز إلا بالشعب.»[3]
ثانياً: التجليات والتشريح العملي
- نموذج تسليم لواء الإسكندرونة:
يقدم سعاده في مقاليه «ريشة شكيب أرسلان»[4] و«الحزب السوري القومي وقضية الإسكندرونة»[5] تشريحاً عملياً لهذه الخيانة. فبينما كان الشعب السوري في الجنوب يثور ضد الانتداب الفرنسي، كانت «أقلام العبودية» – كما يسميها – تعمل على تضليل الرأي العام، مُهيئةً لسلخ جزءٍ حيوي من أراضي الأمة وتقديمه للمشاريع الأجنبية تحت غطاء من الخطاب الوطني المزوّر.[6] ويعتبر سعاده أن سلخ هذه المنطقة الغنية وضمّها إلى تركيا كان «رواية مثلّت فيها الخيانة الأجنبية والوطنية دوراً من أروع أدوارها.»[7] ويحمّل «الحكومة السورية» و«الرجال الذين اختارت فرنسة الاتفاق معهم» المسؤولية، لأنهم «لم يكونوا مخلصين… فكانوا متواطئين معها على الخيانة.»[8] هذه الخيانة لم تكن مجرد خسارة أرض، بل كانت نموذجاً لآلية تتحول فيها النخب الحاكمة إلى أدوات طيعة في يد الإرادات الأجنبية على حساب سيادة الأمة.
- نموذج الخيانة السياسية الزائفة: «النايو رجعية» وخداع الشعب
في مقاله »وحاربنا.. لننقذ اللبنانيين«، يُشَرِّح سعاده آلية أخرى للخيانة، متمثلة فيمن »يزعمون أنهم يعملون لإنقاذ الشعب« بينما هم في الحقيقة يبررون الخضوع للأجنبي.[9] يحوّل سعاده هذا الادعاء رأساً على عقب، مؤكداً أن »الإنقاذ الحقيقي للبنانيين لا يكون أبداً عبر مسار الخيانة.»[10] هؤلاء الخونة، أو ما يسميهم «النايو رجعية»[11]، يظهرون بشعارات «تقدمية» زائفة بينما جوهرهم رجعي، ويعملون على «إدامة التجزئة وإبقاء البلاد مسرحاً للمطامع الأجنبية» تحت غطاء من الخطاب الوطني المزيف.[12] وفي معرض فضحه لأولئك الذين لقبوا أنفسهم بالوطنيين«، يكشف سعاده عن حقيقتهم كخونة، حيث »يضعون أنفسهم في خدمة الأجنبي» ويساهمون في «تمزيق البلاد وإذلال الشعب.»[13] خطرهم الأكبر هو تسميم الوعي القومي وقتل إرادة المقاومة في الشعب، كما يتجلى في خيانة «الشيخ عزيز الهاشم» وعمالته للفرنسيين الذي كان يقوم بمهمة «إفساد الصفوف القومية الاجتماعية وسحق معنويات الحزب القومي الاجتماعي بالدسائس والإشاعات.»[14] إن إنقاذ اللبنانيين، برأي سعاده، يكون في بناء النفوس وتحريرها من الخوف والاستسلام.يقول: «إنّ مرتكبي الخيانة العظمى هم الذين لا يزالون حربة أجنبية مسمومة، مغروسة في قلب الأمة السورية، وإسفيناً أجنبياً في أساس الأمة السورية النفسي وفي أساس هذا الاستقلال! إنّ بناء النفوس في الحقيقة السورية، في القومية السورية، ينقذ اللبنانيين خاصة، من شعوذة النايو رجعيين المتلبننين، وينقذ السوريين عامة، من شعوذة النايو رجعيين المتعربين وينهض بسورية وبالعالم العربي!»[15]
ثالثاً: الاستنتاج – الخيانة المزدوجة
بهذا، لا تظهر الخيانة السياسية عند سعاده كخيانة «للوطن» بمفهومه الجغرافي فحسب، بل هي خيانة مزدوجة: خيانة للأرض وخيانة «لروح الأمة وإرادتها في الحياة.» والمجتمع الذي تقوده مثل هذه النخب هو، بكلمات سعاده، ‘مجتمع مصيره إلى الموت المحتم‘.
خيانة الثورة والعهد: نموذج حسني الزعيم
تتجسد أخطر صور الخيانة السياسية فيما يمكن تسميته ‘خيانة الثورة والعهد‘، والتي تمثلت في نموذج حسني الزعيم، قائد الانقلاب العسكري في سورية عام 1949. فبعد لقائه سعاده ومحاولة تحريضه على القيام بعمل مسلح ضد الحكومة اللبنانية، عاهد حسني الزعيم سعاده على الوفاء والتعاون، وعرض عليه مالاً وسلاحاً ورجالاً، وقدَّم له مسدسه الخاص عربوناً للصداقة. ولكن، كما بيّنت الوثائق والدراسات المنشورة، فإن حسني الزعيم كان متورطاً في مؤامرة دُبِّرت لسعاده. وحقيقة هذه المؤامرة يلخصها شحادي الغاوي في كتابه: «لقد كانت خطة صهيونية – إنكليزية – فرنسية – أميركية لتوريط سعاده وإمساكه بالجرم المشهود تبريراً للتخلص منه ومن الحزب. أما حكومات لبنان وسورية فكانت أدوات طيّعة أدوارها مرسومة ووظائفها محددة، وهي قد نفذتها بكل دقة وإخلاص».[16]
بعد إعلان سعاده ثورته ضد الحكومة اللبنانية، انقلب حسني الزعيم على وعده وسلم سعاده إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته بعد محاكمة سرية صورية. هذه الخيانة المزدوجة – للعهد السياسي وللأمانة الثورية – تجسّد المفهوم السعادي للخيانة كـ ‘طعنة من الخلف« في أخطر صورها. وقد مثل اغتيال حسني الزعيم ومعه محسن البرازي لاحقاً[17] بعد انقلاب ناجح ترأسه اللواء سامي الحناوي، واغتيال رياض الصلح لاشتراكه في عملية الإعدام من قبل أعضاء في الحزب (ميشال الديك ومحمد الصلاح واسبيرو وديع)، تجسيداً عملياً لوصية سعاده في ‘القضاء على الخيانة أينما وجدتموها‘، مما يجعل من هذه الحالة نموذجاً مأسوياً للخيانة ونتائجها في التاريخ السوري الحديث.
[1] أنطون سعاده، الآثار الكاملة – الجزء الأول (مرحلة ما قبل التأسيس)، بيروت، 1975، ذكرى صديق- يوسف إبراهيم اليازجي، ص 63. المجلة، سان باولو، السنة 9، الجزء 7، 1/08/1923.
[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن، خلاص الأمة في وعيها الاجتماعي، كل شيء، بيروت، العدد 111، 13/5/1949.
[3] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948 – 1949، «لا مفر من النجاح»، الجيل الجديد، بيروت، العدد 10، 17/4/1949.
[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942 – 1943، ريشة شكيب أرسلان في مهبّ الدعاوات الأجنبية«. الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 47، 1 تموز 1942.
[5] المرجع ذاته، الحزب »السوري القومي وقضية الاسكندرونة«، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 48، 15 تموز 1942.
[6] المرجع ذاته، ريشة شكيب أرسلان في مهبّ الدعاوات الأجنبية.
[7] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935-1937، »البلاد السورية سيدافع عن سلامتها جيش سوري لا جيش تركي«، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 47، 1 تموز 1942. (نقلاً عن الشرق، بيروت، العدد 29 كانون الثاني 1937).
[8] المرجع ذاته.
[9] الأعمال الكاملة، المجلد الثامن، «وحاربنا.. لننقذ اللبنانيين»، كل شيء، العدد 99، 18 شباط 1949.
[10] المرجع ذاته.
[11] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 948 – 1949، «لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً».
[12] في مقال «انتصار القومية السورية يحقق الجبهة العربية القوية!»، يتحدث سعاده عن الرجعيتان الجديدتان اللتان تُلبسان الحزبية الدينية لباس القومية، ظانتين أنّ هذا الإلباس يقوم مقام الحقيقة ويغني عن القومية الصحيحة. وقد لخصت القضيتين المتناقضتين اللتين تنادي بهما الرجعيتان الجديدتان في أنّ الرجعية العروبية تريد جمع ما كوّنته الطبيعة متفرقاً وأنّ الرجعية اللبنانية تريد تفريق ما كوّنته الطبيعة وفرضه الواقع مجموعاً واحداً ـ مجتمعاً واحداً، أمة واحدة. راجع المقال في الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949.
[13] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث 1938 – 1939، «للتاريخ موقف الزعيم وهو يواجه الحوادث الإنترنسيونية المقبلة»، سورية الجديدة، العدد 40، 25 تشرين الثاني 1939. (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث 1938–1939).
[14] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942 – 1943، وفاة خائن جاسوس – الشيخ عزيز الهاشم، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 54، 15/10/1942.
[15] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن، وحاربنا.. لننقذ اللبنانيين!
[16] شحادة الغاوي، الأسباب والعوامل الحزبية الداخلية في تاريخ استشهاد سعاده… وما بعده، دار أبعاد، بيروت، 2019، ص 170.
[17] أعدما رميا بالرصاص على يد الضابطين فضل الله أبو منصور وعصام مريود وهما عضوين في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

