إن أي محاولة لتعريف الدولة الحديثة لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن نظرة أعمق إلى الحياة والكون والفن، لأن الدولة ليست شأنًا سياسيًا مستقلًا ولا جهازًا سلطويًا إداريًا منفصلًا عن روح الجماعة الإنسان ـ المجتمع، ولا عن ثقافته، ولا هي تمثيل للماضي والتقاليد العتيقة، ولا مشيئة الله، ولا المجد العابر؛ بل مصلحة الشعب هي الحياة الواحدة الممثلة في الإرادة العامة، وهي تجسيد وتحقيق وعي الشعب بمصالحه الكبرى، ونظامٌ عالٍ لتنظيم إرادته وصون حريته وارتقائه. فالدولة، في جوهرها، ليست ملكًا لفرد، أو جماعة، أو مذهب، أو دين أو طبقة، ولا هي حارسة لامتيازات تاريخية، بل هي المؤسسة الكبرى العامة للشعب، ووسيلة تحقيق مصالحه وغاياته المادية- الروحية.
لقد قامت الدولة القديمة المؤسسة على الملك الفرد، أو القوة النافذة، أو الجماعة الدموية، أو العِرق، أو العشيرة، أو الدين داخل المجتمع، فاحتكرت الأمن لفرض النظام، لا لخدمة كل الشعب، بل لخدمة الفرد أو الجماعة أو الدين. وهذه الدولة ماتت نتيجة التطور الاجتماعي والارتقاء الثقافي ونمو القومية؛ فقد أصبحت الدولة هي النظام والهيئة الممثلان لإرادة الأمة.
أما الدولة القومية الحديثة فهي وليدة الانبثاق الحر من الإرادة الشعبية، ونتاج الإدراك والوعي الاجتماعي المعبر عن احتياجات الأمة وقيمها العامة ونظرتها المعبرة عن سبل الارتقاء. إن شرعيتها ليست من قوة السلطة المستمدة من القوة المادية والمقدرات الاقتصادية والأمنية فقط، بل من القوة النفسية الرفيعة والعدالة الاجتماعية، وليست كما هو حاصل في كيانات الأمة السورية وغيرها وراثةً للسلطة او استنساخ سياسيين جدد تابعين للأجنبي، بل بتفويضً حر من الأمة.
تقوم الدولة الحديثة على رؤية جديدة للإنسان ـ المجتمع بوصفه مجتمعا حرًّا خلاقًا قادرًا على الإبداع والتجديد، وعلى رؤية جديدة للحياة والكون والفن باعتبارها مجالات مفتوحة للتطور والتقدم لا لجمود السلطة، وعلى فهم جديد للفن بوصفه التعبير الأرقى عن الوجدان القومي وجدان الجماعة.
ومن هنا، تتأسس الدولة بوصفها مؤسسة عليا تعنى بالمصلحة العامة وتمارس السلطة دون قمع، وتقدر الحرية دون فوضى، وتقيم العدل الاجتماعي دون تميبز او إجحاف بحقوق المواطنين.
القوات المسلحة في أساس نشوئها هي فضيلة الجندية والتضحية والفداء، ووظيفتها حماية الشعب والدولة والوطن من العدو اليهودي والأخطار الخارجية الأخرى، لا إدارة المجتمع أو التدخل في تفاصيله أو حماية النظام السياسي العفن. فهي قوة لحفظ الوجود الاجتماعي وحمايته، لا قوة وصاية أو حكم استبدادي، ولا هي كما يريدها السياسيون في بلادنا خادمة لأغراضهم ومصالحهم الفردية أو أداة بيد المستعمر أو الدول الطامعة في خيراتنا.
والشرطة جهاز مدني مهمته بث فضيلة النظام العام ومنع الانحرافات الاجتماعية وحماية المواطنين من اعتداءات الأشرار. وجودها امتداد للقانون، لا أداة قمع خارجة عنه.
القانون في الدولة الحديثة مصدره الإرادة الشعبية العامة، لأنه ركن النظام، وهو صادر عن المجتمع وغايته تقدم المجتمع ورفعته، لا قيدًا خارجيًا عليه. إنه الصيغة الأخلاقية لحريته، لأن الأخلاق في صميم كل قانون، وهو إطار ممارسة الارتقاء المنظّم والتطور المستمر بعيدًا من الفوضى التي تقتل المجتمع بدل أن تصلحه.
وظيفة الدولة هي تحقيق المصلحة العامة، لا انبطاح السياسيين أمام الأعداء والطامعين. إن القواعد والأشكال الأساسية للدولة لا تُطاع ما لم تتحول إلى مسؤوليات عملية حقيقية تؤمّن المصلحة العامة للشعب وترتقي بالمجتمع،وعليها
واجب ضمان فرص العمل، وجعل كل مواطن منتجً. كما عليها حماية الثروات الوطنية وعدم التفريط بها أن باتفاقيات مع الدول الأجنبية أو التنازل عنها، كما عليها تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج، وتوزيع الثروة بعدالة، وإخضاعها للمصلحة العامة، وتنظيم السوق ومنع الاحتكار، وذلك لتحقيق كرامة المواطن الحياتية والاقتصادية وإبعاده عن الحاجة والذل. إذ لا ارتقاء ولا حداثة بلا عدالة وحماية العمال والفلاحين وكل المنتجين. وحفظ حقوقهم ومنع تحول الرأسمال إلى سلطة فوق القانون او مصلحة الامة.
أيضا على الدولة الاهتمام بالصحة والرعاية العامة، فالصحة حق لكل مواطن لا يُباع. وتلتزم الدولة بتأمين رعاية متقدمة وشاملة وسنّ القوانين التي تمنع احتكار الطب والخدمات الصحية وتحمي الإنسان من تسليع آلامه لزيادة أرباح المؤسسات الخاصة.
نريد دولة تؤمّن التعليم لكل طفل، لأن التعليم قاعدة الارتقاء الوطني. ولذلك يجب أن يكون عالي الجودة، مضمونًا من الدولة، غير خاضع لهيمنة المؤسسات الخاصة أو الأجنبية، لأن المعرفة هي التي تُنتج المواطن الحر، لا الجهل ولا التبعية كما يريدها السياسيون النفعيون الذين سلّموا تعليم أبنائنا إلى الإرساليات الأجنبية دون رقيب أو حسيب ودون ضبطها بقوانين.
ونريد دولة ترعى الآداب والفن وتدعم الفن والأدب المعبّرَين عن أصالة الأمة السورية الثقافية، لا أدبًا وفنًا ملحقين بثقافات أجنبية تُضيع الوعي بحقيقتنا الثقافية الرائدة. فالإبداع هو الذي يمنح المجتمع صورته الرفيعة ويجعل ثقافته حيّة تمتد نحو الأفضل والأسْمى.
هذه هي الدولة التي نريدها: دولة تعبّر عن إرادة الأمة السورية وتحفظ حدود الوطن السوري، لا الدويلات المصطنعة في البقع الجغرافية التي تبيع سيادة الأمة وتراب الوطن للعدو اليهودي والأجنبي السارق، للحفاظ على نفوذ سياسيها تجّار الوطنية. نريد دولة قوية عازمة على استرجاع الحقوق القومية، ولا تتنازل عنها. وليس قولًا ظالمًا إن معظم السياسيين الرسميين وغير الرسميين يعملون وفق الإرادات الخارجية، ويتوجب على الشعب إقصاؤهم عن إدارة مقدرات الأمة وطاقاتها.
الدولة مسؤوليتها السيادة، وكرامة الأمة وحريتها وصون حدودها، لا تسليمها للأعداء. والمصلحة العامة تتجلّى في حرية مسؤولة، وعدالة اجتماعية راسخة، ورفاه اجتماعي يصون الإنسان ـ المجتمع.

