التحديات والفرص في ذكرى التأسيس

بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة والتسعين لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، تبرز أمامنا حاجة ملحة لإعادة قراءة فكر أنطون سعادة في ضوء التحديات المعاصرة، وفتح باب الحوار حول سبل استشراف مستقبل الحزب في ظل المتغيرات الجيوسياسية والتقنية الهائلة.

التأسيس: ردة فعل على تحديات وجودية

لم يكن تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي في 16 تشرين الثاني 1932 مجرد إضافة حزبية إلى المشهد السياسي. لقد كان إدراكاً مبكراً ومباشراً لخطر داهم. لقد أدرك الزعيم مبكراً أن معاهدة سايكس-بيكو في 1916 ووعد بلفور في 1917 لم يكونا مجرد اتفاقيات سياسية عابرة، بل كانا إعادة هندسة جيوسياسية مقصودة لمنطقتنا عكست نتائج الحرب العالمية الأولى، وتهدف إلى تمزيق مشرقنا العربي (سورية الطبيعية) إلى كيانات هشة يسهل السيطرة عليها وإخضاعها.

 تأسس الحزب إذن، كإطار لمواجهة مشروع التفتيت، مشروعاً قائماً على الوحدة في مواجهة التقسيم، وعلى الهوية الجامعة في مواجهة الهويات الفرعية المفتتة. ما يميز رؤية سعادة هو شموليتها. لم تكن الوحدة السياسية فقط هي الهدف، بل كانت وحدة الأمة السورية بمختلف أبعادها: الاجتماعية، الاقتصادية، العسكرية، العلمية، والفكرية. لقد أدرك أن التحرر الحقيقي لا يكتمل إلا ببناء أمة متماسكة وقادرة على الإنتاج والإبداع في كل المجالات. وكان حجر الزاوية في هذا البناء هو العلم الأكاديمي والمعرفة الاجتماعية، بقوله «المجتمع معرفة والمعرفة قوة». وهذا ما جسده في كتاباته ومقالاته ومراسلاته وكل إنتاجه الفكري. يُعد كتاب نشوء الأمم من اهم الكتب الذي ألّفها في علم الإجتماع بعد ابن خلدون ومن اهم المراجع في هذا المجال على المستوى الأكاديمي، اضافة إلى المحاضرات العشر، الإسلام في رسالتيه، المحمدية والمسيحية، وكثير من المقالات والرسائل التي نشرت تحت عنوان الأثار الكاملة.

التحديات الراهنة

اليوم، وبعد أكثر من تسعة عقود، لا تزال التحديات التي حذر منها قائمة بل تضاعفت. إلا أنها أخذت أشكالاً جديدة، تضع الحزب أمام امتحان مصيري:

1. التحدي الداخلي: إعادة البناء الداخلي

منذ تأسيس الحزب حتى اليوم، واجه الحزب تصدعات داخلية في مراحل مختلفة أدت إلى انقسامات كثيرة ونزيف داخلي ولا حاجة للحديث عن أسبابها، 

هذا التحدي هو الأساس. فمهما كانت عظمة الفكر، فإن ضعف البنية الداخلية وعدم القدرة على تجاوز الخلافات الداخلية يحولان دون تحقيق الأهداف المرجوة، ما يستدعي معالجة جزرية تعيد للحزب قوته وحيويته.

2. التحدي العلمي والتقني: سباق اللحاق بالعصر

هذا هو التحدي الأكثر إلحاحاً في القرن الحادي والعشرين. لقد شهد العالم ثورات علمية وتكنولوجية متلاحقة وضعت الجميع أمام مفارقة تاريخية: فإما اللحاق بركب الحضارة أو الاندثار خارج التاريخ والجغرافيا. ففي العقدين الماضيين، أخذ التطور العلمي والتكنولوجي منحى تصاعدي وسريع (exponential) مما يضع العالم كله امام تحديات اكثر تعقيداً لما له تأثير على المجتمعات والأفراد وعلى مستقبل البشرية جمعاء. أهم هذه الثورات هي:

· الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي: غيّرت هذه الثورة مفهوم المجتمع نفسه. فلم تعد العلاقات التقليدية هي المهيمنة، بل ظهرت مجتمعات افتراضية ذات تأثير حقيقي. كيف يمكن للحزب أن يتفاعل مع هذه البيئة الجديدة؟ وكيف يمكنه استخدام هذه المنصات لنشر أفكاره مع التغلب على سلبياتها، مثل نشر الشائعات وتفتيت الوعي الجماعي الخ؟

· الأمن السيبراني (Cyber Security): لم يعد أمن الفرد او الجماعة  مقتصراً على الحدود الجغرافية، بل امتد إلى الفضاء الإلكتروني. أي مشروع نهضوي اليوم يجب أن يضع في صميمه بناء قدرات إضافية في مجال الأمن السيبراني لحمايته من الاختراقات والهجمات الإلكترونية.

· الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence): هذه هي الثورة الأكثر جوهرية. فالذكاء الاصطناعي لا يغير طرق الإنتاج فحسب، بل يطرح أسئلة عميقة حول مستقبل العمل، وطبيعة المعرفة. تجاهل هذا التطور يعني القطيعة مع العصر. يجب على الحزب، المنبثق من رؤية علمية، أن يطور أدواته الفكرية لفهم وتوظيف الذكاء الاصطناعي في مشروعه النهضوي، مع دراسة آثاره الاجتماعية والأخلاقية والسياسية بعمق.

الفرص: إحياء الفكر في عالم يتغير

رغم قسوة هذه التحديات، فإنها تحمل في طياتها فرصاً هائلة للحزب الذي يستطيع استيعابها.

1. الفرصة الفكرية: إن المبادئ العلمية التي أسس عليها سعادة فكره، مثل احترام العقل والمنهج العلمي، هي نفسها أدوات فهم الثورة التقنية الحالية. يمكن للحزب أن يقدم رؤية متوازنة للتقنية، لا تخضع لها بشكل أعمى ولا ترفضها بدافع الخوف، بل توظفها لخدمة الإنسان وتنمية المجتمع.

2. فرصة التواصل: تتيح وسائل التواصل الحديثة فرصة غير مسبوقة لنشر فكر الحزب، وانخراط الجيل الجديد الذي يستطيع وبسرعة استخدام وسائل التواصل على أوسع نطاق.

3. فرصة التجديد: تدفع هذه التحديات الحزب إلى ضرورة تحديث الأدوات دون التخلي عن الثوابت. فالمبادئ الكبرى كالوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر تبقى، لكن وسائل تحقيقها يجب أن تتطور مع تطور العلم والمعرفة.

ختاماً

ذكرى التأسيس ليست مجرد استذكاراً للماضي، بل هي محطة للتقييم واستشراف المستقبل. الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس كرد على تحديات وجودية في القرن العشرين، أمامه تحديات عديدة ويستطيع معالجتها بجرأة، ومواكبة الثورة التقنية بذكاء، وإعادة تقديم فكر سعادة بلغة العصر، ليثبت أن «المجتمع معرفة والمعرفة قوة» هي مقولة لا تزال تنبض بالحياة، وقادرة على قيادة مسيرة النهضة في عصر الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني.

مصطفى الرفاعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *