«لو يذكر الزيتون غارِسَهُ… لسال الزيتُ دمعاً»
محمود درويش.
عندما يتذكّر القوميون وأبناء وطنهم وأمّتهم غارس منطلقات التأسيس ودوافعه وقواعده عند أنطون سعادة، لتحوّلت خلافاتهم وتناقضاتهم وصراعاتهم على أنواعها إلى دماء تسقي وعداً لمستقبلٍ أفضل.
وكالعادة تشكل هذه المناسبة فرصة للتأمل والنقد وربما لإعادة قراءة الإنتاج الفكري الذي قدّمه أنطون سعادة والمسيرة النضالية التي طبعت نشأته وشبابه حتى لحظة استشهاده في الثامن من تموز عام 1949.
وليس من دواعي المبالغة إطلاقاً، أنه في كل قراءة لأعماله هناك إضافات جديدة وبالتالي هناك تحليلات جديدة وإضاءات جديدة، ذلك أنه تحتشد في النص وبين السطور عصارة تجربة فذة ومميّزة إن على صعيد ثقافته وغزارة اطلاعه وعمق معرفته في التاريخ والفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع، أم على صعيد تجربته العملية في التوعية والتثقيف والتعبئة والتحريض ولاحقاً في التنظيم.
حياة أنطون سعاده أمام القارئ عبارة عن مشهد دراما اجتماعية يمتزج فيها الخيال بالواقع وتتعانق فيها الأسطورة مع الحقيقة. قلائل في أمته من تسنّى لهم الاطلاع على سيرة حياته، وهم لو فعلوا أو تيسّر لهم ذلك لوقفوا مدهوشين ومبهورين أمام ذلك النموذج الفذّ الذي قدّمه.
لقد افترش مساحة النصف الأول من القرن العشرين حاملاً على أكتافه هموم شعبه وأمته، مقيماً كان أو مغترباً، ومن يتابع حركته يدرك تماماً أن للدقائق في حياته قيمة كبيرة. حياة زاخرة بالنضال والتضحيات أمضاهاً مدققاً، معايناً، متفحصاً، باحثاً، معبئاً ومنظماً. لم تقعده المصاعب ولم تلوه التحديات عزيمة أو إرادة. لم يعرف الخوف، وفي رحلته مع المشقّات اتكأ فقط على كبريائه وهو غالباً ما خاطب رفاقه قائلاً: «إذا كنتم جبناء أقصيتكم عنّي، وإذا كنتم ضعفاء وقيتكم بصدري، أما إذا كنتم أقوياء، سرت بكم إلى النصر».
في ذكرى التأسيس يمكن للمرء أن يتوقّف أمام الكثير من المحطات في سيرته الفكرية والنضالية، ولقد آثرت في هذه المقالة أن أتوقّف عند بعض الأسئلة/المفاتيح التي شكلت إحدى القواعد الاستراتيجية للعمارة الفكرية التي تركها لنا وهي تباعاً:
أولاً – ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟
هذا السؤال المنهجي الذي شغل عقل أنطون سعادة منذ أن كان يافعاً وهو الذي عاصر أهوال الحرب العالمية الأولى وعاين بلحمه ودمه حال الذلّ والمهانة التي تحيط بأبناء وطنه وجلدته. كان شاهداً على مرارة فقدان السيادة القومية وعلى مدى الضعف والوهن في البنيان الوطني والقومي. وهو إذا كان مدركا في تحليله لمسؤولية الزمن العثماني ومن بعده الاحتلالين الانكليزي والفرنسي في تعميم حال الجهل والبؤس والعبودية والتبعية، غير أنه لم يهادن إطلاقاً في تعيين مكامن الضعف في البنية الاجتماعية لأمته التي نخرها سوس الطائفية والإقطاع والأنانية الفردية والمصالح الخاصة.
إن مصدر الويل برأيه كامن في تلك النفوس الوضيعة التي قدّمت مصالحها الخاصة على المصلحة الوطنية وعلى تلك القوى الطائفية التي جعلت من امتيازاتها جسراً تستجدي له الحماية من الخارج في سبيل الحفاظ على مصالحها.
وهكذا لم يقتصر نضاله بفعل هذه الرؤية على تحميله كامل المسؤولية للخارج عبر إدانته والتنديد به، بل اقتضى ذلك جهداً كبيراً لمواجهة القوى الطائفية ونظامها الاجتماعي متوّجاً ذلك بالثورة القومية الاجتماعية الأولى والتي إن اختلفنا في تقييمها غير أنها كانت نموذجاً لمواجهة العلل الاجتماعية الداخلية بهدف تحقيق مناعة الجسم الوطني وتحصينه.
ثانياً – من نحن؟
حتى لحظة كتابة هذه الكلمات لا زال هذا السؤال يشكل تحدياً للقارئ بشكل عام والأجوبة عليه متعددة ومتنوعة وتعكس حالة البلبلة في المفاهيم والقيم.
فنحن تارة عرب وإسلام ومسيحيون وطوراً لبنانيون وسوريون وفلسطينيون وعراقيون وأردنيون وأطواراً سنّة وشيعة ودروزاً وروم وموارنة وكاثوليك، ناهيك بالنزعات الفينيقية والكنعانية، والأشورية، والكلدانية، والكردية.
أمام هذه الفسيفساء والموزاييك القومي جاءت دراسات وأبحاث أنطون سعاده العلمية والتاريخية والأنثروبولوجيا لتقدّم نموذجاً مغايراً لمفاهيم التجزئة والتفتيت، نموذجاً يستند إلى الأبحاث العلمية والدراسات التاريخية للشعوب والأجناس والأعراق وأنماط عيشها واختلاطها وتمازجها السلالي والإثني والعرقي تبعاً لضرورات التفاعل البيئي والجغرافي والاقتصادي، حيث جاء كتابه «نشوء الأمم» الذي قام بكتابته خلال سجنه عام 1936 ليشكل منعطفاً كبيراً في علم الاجتماع داحضاً فيه للنظريات العرقية والعنصرية ومؤكداً على أهمية المتحد الاجتماعي في نشوء وتكوّن الأمة.
وهكذا جاء جوابه «نحن سوريون قوميون اجتماعيون».. ليقدّم لشعبه هوية قومية موحَّدة وموحِّدة بديلاً لولاءات الطوائف والقبائل والملل و—- التي حالت دون نهوض أمته وانعتاقها من قيود التخلف والتبعية إلى رحاب الحرية والاستقلال.
ثالثاً – المجتمع معرفة والمعرفة قوّة.
من هنا كان تركيزه على الوعي باعتباره شرطاً ضروريّاً لإدراك واقع الحال وفهم معيقات التقدّم والنهوض كمقدّمة ضرورية للبحث عن البدائل والخيارات. وهكذا تتحوّل المعرفة إلى قوّة فاعلة في مواجهة التحديّات أوّلاً، وفي عملية التنظيم والبناء ثانياً.
رابعاً:
ما الذي دعاني إلى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي؟
يبدو أن الجواب على السؤالين المنهجيين شكل النقلة المعرفية التي أرادها سعاده على مستوى الوعي القومي، ذلك أنه كان يدرك جيداً أن حال البلبلة والجهل والفوضى السياسية لا يمكن مواجهتها إلا برفع راية الحقائق العلمية والتاريخية والاجتماعية. وأنه من أجل ذلك لا بدّ من إنشاء حركة منظمة وفاعلة تقوم بعملية التغيير بهدف زرع وتعميم المفاهيم الجديدة.
وهكذا جاءت عملية التأسيس لتشكل تواصلاً منهجياً وإطاراً تنظيمياً لتحويل الأدوات المعرفية والنتاج النظري والفكري إلى مشروع حقوقي سياسي يساهم في حفر وقائع اجتماعية جديدة أملاً في إرساء المداميك والقواعد الضرورية للتغيير المنشود.
التأسيس كان وسيبقى منارةً ومِنصّةً:
منارة تضيء الطريق أمام الذين يبحثون عن البدائل لشعبنا ومجتمعنا، وكمقدّمة للانخراط في مشروع التغيير.
ومنصّة للانطلاق معاً نحو تحقيق الأهداف التي صاغها وارساها المؤسّس من أجل مستقبلٍ أفضل لنا جميعاً.

