الحداثة وفعل التأسيس

منذ الحرب العالمية الأولى، لم تعد الحداثة أمنية نظرية للممارسات الاجتماعية (المجتمعية في حال وجود المجتمع)، بل أصبحت واقعاً تمارسه الشعوب والمجتمعات، فالتكنولوجيا والتكنولوجيات، سادت كفاعل في أدوات الإنتاج، التي تضاعف منتوجها كماً ونوعاً، رافعة مجتمعاتها، إلى مراتب الشبع والمنعة ومن ثم إلى مكانات التنافس الدولي، وهذا ليس بعبث، بل هو نظام وانتظام في استخدام الإمكانيات البشرية، من خلال التكنولوجيات المعاصرة، التي لا تهدأ ولا تتوقف عن مسائلة الحاضر، قبل الماضي، وتحييد القوى المحبطة للمشروع المجتمعي، الذي عليه أن يكون مرتقياً بالضرورة، عبر التفاعل الإيجابي مع آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا من تكنولوجيات، تفيد بتفاعل البشر مع واقعهم الحالي (المعاصر)، ولعله من المفيد التذكير، أن الأخذ بالتكنولوجيات وممارستها والتفاعل معها، هو البوابة الأولى إذا لم نقل الأساسية، في الدخول إلى عالم التكنولوجيا والتأثير فيه، تحت ضغط  الحاجة إلى تكنولوجيات بيئية (مبيأة)، تراعي أحد أطلع مثلث الحياة الإنسانية المؤلف من الجسد والعقل والبيئة، هذه الأضلع المتخادمة، هي من يقود ممارسة الحياة، ويحسم شكل وجودها الاجتماعي، كتركيب يناسب العصر وتكنولوجياته.

ولعله من الطبيعي التساؤل عن هذه التكنولوجيات المحدثة، ونوعيتها، وفعلها، وميكانزماتها، فالمعاصرة كواقع حياتي إجباري، لا يمكن الانفلات منه، بواقع المصالح المتنافسة، بين المجتمعات، التي تعبّر بحيويتها، عن مكانتها و إمكاناتها، والتي تخضع للتنظيم وإعادة التنظيم بشكل يومي، وهو ما يسمى إدارة المجتمع ( وليس إدارة أزمات المجتمع)، ويطلق عليه عادةً أسم «السياسة»، التي هي ذاتها، أفعال نتجت عن أفعال تأسيسية سابقة وحالية، أنتجت تكنولوجية الدولة، ( التي لما نزل نحن في بلدان سورية الطبيعية، لا نفرق بين الدولة والسلطة والعنف والحكومة والقضاء المستقل .. إلخ) التي لما نزل نفتقد إلى الكثير من تكنولوجيات تحقيقها، فالدولة (كما غيرها) لا تأتي في السياق التكنولوجي العام (استخدام السيارة والطائرة وحالياً الكومبيوتر ..إلخ)، بل تبنى على تكنولوجيات تجمع التنظير بالممارسة، مثل الأحزاب والنقابات ومراكز البحوث والجامعات، التي تنبثق عنها ممارسات كدساتير، كحق الحياة،الحرية والمساواة والعدالة وحرية التعبير والاعتقاد، وممارسة النقد والانتقاد، وكل ما تحتاج إليه الكرامة الإنسانية، كتكنولوجية قيمية للإنتاج، في سبيل البقاء والاستمرار قدماً في هذه الدنيا، وهي كلها تكنولوجيات محايدة أيدولوجياً، ولا يمكن نسب نسبها إلى الماورائيات، أو ما يشبهها من «عبقريات» طارئة كالقائد الملهم أو الاستثنائي، ولا إلى الانتدابيات ( التي لا تزال مستمرة)، التي تساعد ( وربما تبني هي بذاتها) هياكل تكنولوجياتية، تسم بالمجاز «دولة»، تتسم باحتكارها للعنف الاضطهادي، غير المدستر، بحماية دولية تعبر عن تقاطع المصالح، وهذا كله ناتج عن عدم استخدام التكنولوجيات، في زمانهما ومكانهما البدهيين، ما يصنع حالة مطاردة واضطهاد، تعاكس تأسيس اي مجتمع في عصره .

فيما لو اخترنا، واحدة من هذه التكنولوجيات لتكريسها في الاجتماع البشري وممارستها، تتصدر الأحزاب قائمة الحاجيات الضرورية لقيام الدولة، ولكن الطامة الكبرى ( في كيانات سوريا الطبيعية) أن المجتمع بمفهومه المعاصر لم يتأسس بعد، أي مجتمع المصالح والدورات الاقتصادية الاجتماعية، وهنا لا تكفي تكنولوجية الحزب السياسي لتغطية فعاليات الدولة (المجازية)، من مراقبة أداء، والمساءلة، وتقديم المشاريع التنموية، بل نحتاج إلى أحزاب تحمل القضية الاجتماعية على أكتافها، إذ لا مراقبة ولا محاسبة أو اقتراح مشاريع، خارج حضور المجتمع المعاصر المعلن ( بغض النظر عن وجود كيانات جغرافية ذات حدود سيادية سياسية)، فمجتمع المصالح، والدورات الاقتصادية، هو مجتمع عابر لهذه الحدود، فالاعتماد المعيشي هو تبادلي بالضرورة، واختراق هذه الحدود هو اختراق داخل المجتمع، وبالتالي ترابط المصالح، هو الصورة الأساسية ( قد تكون مخفية بقوة الإعلام والتربية والوجاهات السياسية)، وبالتالي يبدو عدم تضمين أي حزب هذا الشأن الإنساني التأسيسي، يفقده ميزة الإرتقاء والتراكم المعرفي، والإستمرار، وتبقى مجازية وجود دولة قابلة للمساءلة والتنمية، مستمرة إلى ما لانهاية، فالمظهر التكنولوجياتي الفارغ، أو ما يسمى بالمجاز «دولة»، ليس هو إلا فشل ذريع للإجتماع البشري، وعليه أن يبقى في الويل، طالما هناك زيف في القضية المجتمعية. وهذا (القضية المجتمعية) ما يضيف للأحزاب جدية موضوعية، تنجدل مع الأداء السياسي في تقييم الأصلح لهذا المجتمع أو ذاك، قياساً إلى العصر.

لقد غادرت الأحزاب الاجتماعية في شتى أصقاع العالم ساحاتها، بسبب نجاحها في تأسيس المجتمع المعاصر المفهوم والمتفاهم معه، وتحولت إلى أحزاب سياسية، تضع في مشاريعها الارتقاء المجتمعي ( السوق الأوربية المشتركة، الاتحاد الأوربي، واليوم أوربا الموحدة)، وتستخدم في تنفيذها، إمكانيات الشعوب في تبادل المصالح، وعينها أن تصبح أوربا مجتمعاً واحداً، مع المحافظة على البيئات المتمايزة على صعيد المهارات (مثلت الحياة الذي أتينا على ذكره أعلاه) و كذلك على صعيد تحويل التراث إلى فلكلور يلبي الحاجة الروحية لأعضاء المجتمع الواحد.

 ربما، وأقول ربما، كان أنطون سعادة واحد من الناظرين والمنظرين، لحال مجتمعة، آخذا بعين الاعتبار، إقدامه على تأسيس حزب حديث وحداثي يتفاهم مع العصر قبل استشهاده غيلةً، وربما وأيضاً ربما توقف هذا الحزب عن الارتقاء، ليس بفعل المطاردة والاضطهاد التراثويين فقط، بل في انضوائه ترويضاً في بيئة لبيئة مضادة للحداثة، على الرغم من أهمية منجزه التفكيري، إلا أنه لم ينجح بالارتقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *