مصير الكيانات الطائفية في سورية الطبيعية؛ الجغرافيا الممزقة والهوية المستباحة

نستعرض هنا مصير الكيانات الطائفية المفترضة في سورية الطبيعية من منظور جيوبوليتيكي، مع تحليل مقومات الدولة الحقيقية وعوامل هشاشة هذه الكيانات. يركز المقال على الانعكاسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتقسيم الوطن على أسس طائفية، ويقدّم رؤية مستقبلية للنتائج في حال استمرار منطق الطائفية دون مشروع نهضوي جامع.

الطائفية ليست مجرد انقسام مذهبي داخلي، بل أداة جيوبوليتيكية استخدمت عبر قرون لتفكيك سورية الطبيعية وتحويلها إلى مساحة نفوذ للقوى الإقليمية والدولية. إن تقسيم الوطن إلى كيانات طائفية لا يعني فقط تفكك النسيج الاجتماعي، بل يفتح الباب أمام إعادة هندسة الجغرافيا السياسية بطريقة تخدم مصالح الآخرين، بينما تُستنزف الموارد المحلية وتُنهب السيادة الوطنية.

من منظور استراتيجي، أي كيان طائفي في سورية الطبيعية يفتقر للعمق الجغرافي والاقتصادي والسياسي، ويصبح عاجزاً عن حماية نفسه دون دعم خارجي. هذا النقص الهيكلي يجعل هذه الكيانات أدوات سهلة للتدخل الخارجي، سواء من القوى الإقليمية أو العالمية، بما يكرّس النفوذ ويمنع قيام دولة حقيقية قادرة على التطور.

بذلك، الطائفية تتحوّل من ظاهرة اجتماعية إلى خطر جيوسياسي مباشر، يضع سورية الطبيعية في خانة دولٍ ممزقة، عاجزة عن إنتاج استراتيجية وطنية متكاملة، ويعرض المنطقة المحيطة إلى صراعات مستمرة على الحدود والممرات الحيوية، بما في ذلك البحر المتوسط والشمال العراقي ـ التركي.

الطائفية كخرائط مصغّرة للهيمنة

حين يُختزل الوطن إلى فسيفساء طوائف، يتحول المجال السياسي إلى شبكة ولاءات متناحرة لا إلى جغرافيا موحّدة. في سورية الطبيعية تحديداً، حيث التنوّع هو الأصل لا الاستثناء، فإن كل طائفة تنكفئ إلى داخلها لتُشكّل ما يشبه «الدولة المصغّرة» داخل الدولة.

لكن هذه «الدويلات» المفترضة تفتقر إلى المقومات الأساسية لأي كيان مستقر:

في الساحل والشمال الغربي، حيث يفترض قيام كيان علوي أو مختلط، نجد جغرافيا محدودة الموارد، محصورة بين البحر والجبال، لا تمتلك عمقاً استراتيجيا أو قدرة على الاكتفاء الذاتي، وتعتمد اقتصادياً على الداخل السوري المنفصل عنها سياسياً.

في الوسط والجنوب، حيث الكثافة السنية الكبرى، سيصطدم أي كيان مفترض بتناقضات داخلية بين مدن كبرى كدمشق وحمص وحماة، وبين الريف المهمّش والمخترق خارجياً، ما يجعل «الكيان الأكثري» ساحة تنازع لا مركز قيادة.

في الجبل، حيث الثقل الدرزي، سيبقى الكيان معزولاً جغرافياً، مفتقراً للمنافذ البحرية أو الاقتصادية، ومحاطاً بكيانات أكبر منه عدداً ومساحة.

في الشمال الشرقي، حيث الأغلبية الكردية ـ العربية المختلطة، يتكرّر المشهد نفسه: اقتصاد ريعي هش، واحتماء بقوى أجنبية تحوّل الأرض إلى قاعدة دائمة لا إلى وطن مستقر.

في لبنان النموذج الأصغر، تبدو المحاصصة الطائفية التي أرساها النظام بعد الطائف كصورة مكبّرة للفشل الجيوبوليتيكي، حيث لا سيادة داخلية ولا قدرة على الاستقلال الخارجي.

بهذا المعنى، لا تمثّل الطائفية فقط انقساماً عمودياً، بل تشظّياً جغرافياً يجعل كل كيان مفترض محاصراً ضمن حدوده، عاجزاً عن الحياة دون استيراد الأمن والغذاء والطاقة والشرعية من الخارج.

الطائفية كمنظومة تعطيل للنهضة والتطور

من منظور الجيوبوليتيك، الدولة القابلة للحياة هي التي تمتلك ثلاثة عناصر: وحدة الأرض، واستقلال القرار، واستمرارية الاقتصاد المنتج.

أما الدولة الطائفية فتفقد هذه العناصر مجتمعة:

فهي لا تمتلك وحدة الأرض لأن حدودها مرسومة بالدم والخوف.

ولا استقلال القرار لأن زعاماتها مرتهنة لحماية خارجية.

ولا اقتصاداً منتجاً لأنها تُغذي الريع والفساد والزبائنية.

وهكذا، تتحول الطائفية إلى «جسر نفوذ» بين الداخل والخارج، تُبقي الجغرافيا مشرعة على التدخل، وتمنع أي مشروع وحدوي أو نهضوي من الاكتمال. كل طائفة تنظر إلى الجوار كتهديد، وإلى الخارج كضمانة، فيتحوّل الأمن الوطني إلى أمن مستعار، والسيادة إلى سلعة تفاوض.

السيناريو الأسوأ: دول بلا أرض، وجغرافيا بلا روح

إذا افترضنا أن مشروع التقسيم الطائفي نجح، فإن النتيجة ستكون سلسلة من الكيانات الهشة التي تتنازع على الموارد والمياه والممرات.

سيتحوّل البحر المتوسط إلى واجهة نفوذ خارجية للميليشيات والإقطاعات المحلية، ويُحاصر الداخل برياً بين إسرائيل وتركيا والعراق. سيتكرّس الاعتماد على الخارج، وتتحول الحدود إلى جدران خوفٍ متقابلة.

في العقد الأول، سيغرق كل كيان في حروب حدودية متقطعة، تنفجر كلما تبدّل ميزان دعمٍ خارجي.

في العقد الثاني، ستتحول هذه الكيانات إلى إقطاعيات أمنية واقتصادية مرتبطة مباشرةً بالقوى الكبرى.

وفي العقد الثالث، سيختفي المعنى التاريخي للمشرق كفضاء حضاري واحد، لتولد أجيال جديدة بلا ذاكرة جامعة ولا هوية سياسية واضحة.

وهكذا، يتحوّل المشرق من قلب العالم القديم إلى أطراف متنازعة على خرائط الآخرين.

إنه السيناريو الجيوبوليتيكي للعدم: وطن ممزق، موارد مفرّغة، وشعوبٌ بلا أفق.

الأبعاد الجيوبوليتيكية

الطائفية ليست قدراً جغرافياً، بل سلاحٌ جيوبوليتيكي يُستخدم لتفكيك الوعي والحيّز معاً.

فكلما انقسمت الطوائف، تمددت الحدود الاصطناعية، وانكمشت الإرادة الوطنية.

وكلما غاب المشروع القومي الجامع، تمدد الفراغ بين البحر والصحراء، بين التاريخ والمستقبل.

إنّ سورية الطبيعية، بما تختزنه من وحدة حضارية وجغرافية وموارد بشرية، قادرة على أن تكون محور توازن لا ضحية صراع.

لكن شرط ذلك هو التحرر من العزلة الطائفية وبناء دولة مدنية علمانية ذات بعد قومي ـ تنموي، لا تُقاس بقوة زعاماتها، بل بقدرتها على إعادة تشكيل الجغرافيا في خدمة الإنسان.

ففي الجيوبوليتيك كما في التاريخ، الطوائف تموت حين تُقسم،والوطن يحيا حين يُوحَّد.

مراجع أكاديمية مختارة

1. أنطون سعاده  ـ  المحاضرات العشر، دار الفكر، بيروت، طبعات متعددة.

> تناول الطائفية كأداة تفتيت استعماري ومصدر لانحلال الروابط القومية.

2. عزمي بشارة  ـ  المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014.

 تحليل بنيوي للطائفية بوصفها نظاماً سياسياً منافساً لمفهوم الدولة الوطنية.

3. هشام شرابي  ـ  النقد الحضاري للمجتمع العربي، دار الطليعة، بيروت، 1988.

 دراسة للعلاقات الأبوية ـ الطائفية وتأثيرها في تعطيل التحديث والنهضة.

4. فواز طرابلسي  ـ  تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف، رياض الريّس، بيروت، 2007.

 مثال تطبيقي لفشل النموذج الطائفي اللبناني في إنتاج دولة سيّدة.

5. سامي مبيض  ـ  سورية والغرب: من الاستقلال إلى الحصار، دار رياض الريّس، بيروت، 2012.

 عرض للعوامل الجيوبوليتيكية التي ساهمت في إعادة إنتاج الطائفية السياسية.

6. علي فخرو  ـ  في نقد الدولة الطائفية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010.