الموسيقى، مسار في بلسمة الجراح والاندماج في المهاجر «المدرسة الموسيقية المتنقّلة» مثالاً

ما زلت أذكر ذاك اليوم عندما اصطحبني والداي إلى قصر اليونسكو في بيروت مطلع الثمانينات، حيث تواجد هناك بشكل مؤقت الكونسرفتوار الوطني اللبناني بسبب الحرب وإنشطار المدينة إلى جزئين. كان الشطر الشرقي يرفض اللاجئين الفلسطينيين جملة وتفصيلاً مما أدى الى تهجيرنا من مخيم ضبيه الى غرب بيروت. أما الشطر الغربي فلم يرفض الفلسطيني جملة، بل في بعض التفاصيل فقط. المعهد الوطني لم يكن يقبل المواهب الفلسطينية اللاجئة. وهكذا عدنا أدراجنا للبيت. لم أدرك حينها أن تعلقي بالموسيقى سيتجاوز القوانين البائسة والمجحفة تجاه اللاجئين في لبنان.

 في الفترة ذاتها إنضممت إلى فرقة موسيقية تؤدي الاغنية العربية الجديدة الملتزمة. أهداني خالي آلة عود دمشقي وبدأت بالاستماع للموسيقى عبر الكاسيت والراديو، محاولاً تأدية ما أسمعه على آلة العود. شعر أهلي حينها بأن إنضمامي لهذه الفرقة مشابه لانضمامي لإحدى التنظيمات الفلسطينية، فقرروا إرسالي للنمسا مع بدء حرب المخيمات الفلسطينية في عام 1985ً.

أما خلفية إختيار النمسا فليس له أية علاقة بموزار أو هايدن أو ليست أو مالر أو شتراوس أو بروكنر والعشرات الاخرين من المؤلفين الموسيقيين، بل بدافع وجود أخي الاكبر والملُزم بأخيه الاصغر، حسب القانون الدولي للأقليات والقانون الفلسطيني الثابت منذ النكبة. ڤيناّ بمتاعبها ومشاكلها العامة اعطتني بصيص املٍ، في أن أحقق حلمي الشخصي، بأن اكون موسيقياً. وهذا ما كان.

أسمح لنفسي تذكّر وذكْر هذه التفاصيل كونها مرتبطة أشد الارتباط بدافعي الشخصي في إطلاق المبادرات التي سأتطرق لها في هذه المداخلة. إذ ان مدخلي لإطلاق مبادرة تمس اللاجئين مرتبطة بتجربتي الشخصية كوني ولدت لاجئا. والموسيقى بالنسبة لي كانت وما زالت بلسماً للجراح ومنبعاً للصمود ومدخلاً لدور فاعل في المجتمع الجديد. 

في عام 2015 وصل آلاف اللاجئين القادمين من الشرق الى النمسا. هبّ الكثير من الناس آنذاك بشكل عفوي لمساعدة القادمين، ولتأمين ما توفر من ملبس ومشرب، ومن شقق ومساكن. لفت انتباهي حينها وجود الكثير من اللاجئين القاصرين، الذين قدموا دون أهل، حاملين في جعبهم احلامهم واحلام من تركوا وراءهم. كان هؤلاء الصغار محكومين بالانتظار المضجر بسبب آليات إدارة امور اللاجئين والمتعلقة بالبحث والبت في طلباتهم وتقرير مصيرهم. تلك الفترة ما بين اللجوء والقبول تضيف إلى معاناة اللجوء معاناة جديدة. إنطلاقاً من مبدأ أن الأطفال يستحقون الحصول على الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدتهم على التعافي من صدمة اللجوء، قمت بمبادرة تأسيس مدرسة موسيقية متنقلة تعنى بهذه الفئة. توجهت المدرسة المتنقلة إلى مخيمات اللجوء في ڤيناّ وضواحيها لتقديم الدعم للاجئين اليافعين من خلال ورش عمل موسيقية شارك بتقديمها زملاء لي آمنوا برسالة هذه المدرسة. كان الهدف من هذه الورشات، والتي اسُتخدمت فيها لغات مختلفة منها الفارسية والانكليزية والعربية والالمانية، كان هدفها الاول تخفيف عبء التوتر والقلق عند الأطفال، وتقوية إحساس الطمأنينة والراحة والاتصال العاطفي.. 

من خلال هذه الورشات استطعت تدريب مجموعة للمشاركة في تقديم بعض الورشات المعنية بطرح موضوع اللجوء. من بين هذه المجموعة فتاتان الأولى من أفغانستان والأخرى من سوريا في عمر المراهقة. كلتاهما شقّتا طريق اللجوء في عمر صغير ودون أهل، تارة مشياً على الاقدام وتارة مع المهربين. شابتان موهوبتان في مجالات الرقص والغناء والرسم. من خلال إعطاء هاتين الفتاتين الفرصة للحديث عن قصة لجوئهم بالإضافة إلى مشاركة إبداعية في المدارس مع طلاب في نفس الفئة العمرية، تحول الحديث عن اللاجئين إلى حديث مع اللاجئين وكُسرت صور نمطية سائدة في الذهنية النمسويّة. أما الفتاتان فقد زادت هذه التجارب ثقتهما بأنفسهما وتعززت قدراتهما. لم تكن هذه المبادرة لتنجح دون دعم من مؤسسة نمسوية كانت تعمل مع رؤساء بلديات ساهموا برعاية اللاجئين وتقديم يد العون لهم في دول أوروبية وفي تركيا والاردن ولبنان. 

منهجية الورشات

في بداية هذه الورشات كان لا بد من بناء علاقة مع التلاميذ مبنية على الثقة والأمان والاحترام. كان المدخل لبدء العمل على هذه العلاقة هو التعرف على الاسم الاول للتلاميذ، كيفية لفظه، وإن كان للأسم معنى محددُ يعرفه التلميذ، وإذا كان التلميذ على علم بخلفية التسمية ولماذا تم اختيار هذا الاسم من قبل العائلة. لم تكن خلفية التعرف على الاسم من جانبي لمعرفة القصص الحقيقية للتلاميذ، بل من أجل تشجيعهم على التعبير عما يخالجهم. في عدد من الورشات عاينت التنافس بين الطلبة في التكلم عن أسمائهم، وهذا تطلب منهم بعض الامكانيات اللغوية والخيالية في الحديث.  حوار وتنافس وتجاوز لحواجز الخجل والشعور الدائم بالنقص تجاه المعلمين ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء. مدخل ساعد أيضاً في أن يشعر التلاميذ بأنهم جزء عضويّ في صفهم المدرسي ومكملاً له. إعتمدت هذه المبادرة على تقديم ورشات تجمع ما بين الموسيقى والاداء التعبيري، تعرف خلالها التلاميذ على مساحات واسعة من الموسيقى والفن. وهذه المساحات وفرت بيئة صلبة لتتحول الموسيقى من جانبها المرح والممتع الى رفيقة درب وبلسماً يهدئ اضطراب الروح.

لا تسعى مشاركتي هنا في التعمق في مضامين الورشات اللاحقة، والتي تركزت على تقوية الحس الجسدي للإيقاع والموسيقى، وتنسيق الحركة الجسدية مع النغم والقراءة الموسيقية. بالإضافة الى تعلم أغانٍ من ثقافات مختلفة ممثلة في الصف ودعوة التلاميذ عبر الادوات المكُتسبة الى تشكيل عيناّت ايقاعية خاصة بهم ومن توليفهم. في نهاية العام الدراسي قام التلاميذ بتقديم عروضٍ موسيقية في المدرسة وشاركوا كذلك في افتتاح مؤتمرين دوليين عن قضايا اللاجئين. كانت هذه المشاركات تتويجاً لعملِ عام كامل، إستطاع التلاميذ من خلاله تطوير شخصياتهم وقدراتهم وتعزيز مهاراتهم السلوكية بالإضافة إلى الإحساس بالدعم والتشجيع من قبل الاهالي، والمعلمين والجمهور وبالروح الايجابية والواعدة لصغار السن.

المرحلة الثالثة من هذه التجربة أدت إلى تأسيس أول صف للعود في البوب أكاديمي في ڤيينا، وهي المبادرة الاولى في النمسا لتعلم آلة العود بشكل رسمي ومساوٍِ كأية آلة موسيقية. هذه المبادرة والتي بدأت في عام 2018، أتت بثمار ملموسة. كان أوائل المنتسبين لصف العود من اللاجئين السوريين، أما الان فقد إنضم الى سرب العوادين جنسيات مختلفة ومن النمسويين الاصليين. كما أصبح لجزء من الطلبة وبعد سنوات قليلة من المقدرة الموسيقية ما يمكنهم من اقامة عروض موسيقية والمشاركة في حفلات رسمية. كما يستطيع المبدع من الطلبة في المستقبل وبناء على شهادة الأكاديمية التقدم لامتحان دخول الجامعات المختصة بالموسيقى.  

من أجل تقنين منهجية تدريس العود لصغار السن استحدثت ربع آلة العود ونصف آلة العود لمن هم دون سن العاشرة. هذا الاستحداث ليس اختياراً عشوائياً، بل ذو مقاسات محددة يستطيع صغار السن حمل الآلة بدون حواجز بدنية في العزف. 

وحفل الميلاد السنوي للأكاديمية أصبح لا يحلو ولا يخلو من تراتيل الميلاد في اللغة العربية. الشيء المثير لي في حفلات الميلاد التابعة للأكاديمية هو أنه عبر مشاركة صف العود تتحطم الصور المسُبقة لعدد لا بأس به من الناس: مرونة طلبتي غير المسيحيين في عزف التراتيل وغنائها، مرونة طلبتي غير المسلمين في تقبل اداء المسلمين للتراتيل المسيحية، واستغراب الجمهور النمسويّ البسيط بوجود تراتيل عربية، حيث اصبحت اللغة العربية مرتبطة بذهنيتهم بالديانة الاسلامية.  

هذه المبادرات لم تكن فقط ايجابية الطابع، بل رافقتها عدد من التحديات والاشكاليات، لكن يبقى الجانب الايجابي هو الطاغي. مبادرة مدرسة الموسيقى المتنقلة هي نموذج لدور الفنون عامة والموسيقى خاصة في مساعدة اللاجئين اليافعين وتمكينهم من تجاوز صدماتهم والتصالح مع الذات بالإضافة إلى دورها في بناء جسور التفاهم وتعزيز عملية الاندماج الاجتماعي دون أن يفقد الفرد خصوصيته وهويته الثقافية. فمن خلال التفاعل الموسيقي، سواء بالعزف أو الغناء أو المشاركة في الفعاليات الفنية، تتشكل مساحة مشتركة تُعيد تعريف الهوية بطريقة مرنة ومفتوحة، تسمح بالتعايش والتكامل بين الثقافتين الأصلية والمضيفة. بهذا المعنى، تصبح الموسيقى جسراً للتواصل الثقافي، لا يذُيب الاختلافات، بل يحتفي بها، ويحوّلها إلى مصدر للإبداع والانسجام الإنساني.

* موسيقي واستاذ محاضر عن العود والموسيقى العربية في كلية البحوث في الموسيقى الشعبية وعلم الشعوب الموسيقية في جامعة ڤيينّا للموسيقى.

** مداخلة في مؤتمر دار الكلمة عن دور الدين والفنون في تعزيز صمود المجتمعات في سياق الأزمات المتفاقمة في مدينة هانوڤر الالمانية من 16 الى 18 اكتوبر 2025.

مروان عبادو