الخيانة في فكر أنطون سعاده الخيانة كقوة تاريخية معادية للنهضة

4 ـ الخيانة كإشكالية أخلاقية فردية وجماعية

تمثل الخيانة إشكالية مركبة تتراوح بين المستوى الفردي والجماعي، مما يجعلها ظاهرة تستعصي على التصنيف الأحادي. فبينما تنظر الفلسفة الأخلاقية التقليدية إلى الخيانة كفعل «إرادي فردي» ينمُّ عن ضعف في الشخصية أو انهيار في القيم، يقدم التحليل الاجتماعي-السياسي تصوراً أكثر تعقيداً يراها كـ «ظاهرة بنيوية» قد تكون منظّمة ومؤسساتية. على المستوى الفردي، تظل الخيانة خياراً أخلاقياً يحمل الفاعل مسؤوليته الكاملة عنه، حيث تنشأ من ضعف نفسي أمام إغراءات المصلحة الشخصية، وانتهازية تفضّل المنفعة الذاتية على المصلحة العامة، وانهيار قيمي يفقد معه الفرد شعوره بالواجب والمسؤولية.

غير أن الأبعاد الحقيقية للإشكالية تتجلى عند الانتقال إلى مستوى الخيانة الجماعية، حيث تتحول من فعل فردي معزول إلى «ظاهرة مؤسساتية منظمة». في هذا الإطار، تتحول الزعامات الاقطاعية الحاكمة أو الأحزاب والتشكيلات الطائفية إلى أدوات طيّعة في خدمة مصالح خارجية، وتُشرعَن الخيانة عبر خطاب أيديولوجي مُزيّف يُضفي الشرعية على بيع المصالح القومية، كما تتحول مؤسسات الدولة من أدوات لخدمة الشعب إلى آلات لقمع إرادته. وهذا الانتقال من الفردي إلى الجماعي يخلق إشكالية حادة في تحديد المسؤولية: هل الخائن الفرد هو مجرد نتاج لبيئة اجتماعية فاسدة؟ أم أن الخيانة الجماعية هي محصلة لخيارات أفراد تنازلوا عن مسؤولياتهم؟

يمثل فكر أنطون سعاده نقطة التقاء عضوية بين البعدين الفردي والجماعي. فهو يرى أن «الخيانة الفردية» هي تعبير عن مرض في الشخصية القومية، بينما تمثل «الخيانة الجماعية» نتيجة حتمية لتراكم الخيانات الفردية وتغلغلها في النسيج الاجتماعي فينتج عنها إفساد الحياة والنهضة. وبذلك، فإن المجتمع الذي يتسامح مع الخيانة الفردية هو، في الرؤية السعادية، «مجتمع يحتضن بذور فنائه»، لذلك تظهر الخيانة كظاهرة متعددة المستويات، حيث يتداخل الفردي بالجماعي في حلقات مفرغة. فالفرد الخائن يسهم في إفساد البيئة الاجتماعية، والبيئة الفاسدة تنتج أفراداً أكثر خيانة. وهذا ما يفسر تشديد سعاده على أن محاربة الخيانة تتطلب عملاً مزدوجاً: تطهير الفرد من الضعف والانهزامية والأنانية العمياء وتطهير المجتمع من المثالب والرذائل والجراثيم المفسدة والانحطاط الأخلاقي والمنافقين والدجالين.  وبهذا المنهج المزدوج وحده يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة وبناء مجتمع أمثل قائم على الوفاء والأمانة.

الفصل الثاني: مفهوم الخيانة عند أنطون سعاده – الأبعاد والأنواع

2.1 الخيانة كنقيض للقضية القومية الاجتماعية

يضع سعاده الخيانة في مواجهة مباشرة مع «فكرة الأمة» ومشروع النهضة، مُقدِّماً حكماً أخلاقياً مطلقاً لا هوادة فيه. ففي وصيته الشهيرة الواردة في خطابه في الأول من آذار عام 1938، يؤكد سعاده موقفه المبدئي الذي يشابه في صرامته الأخلاقية موقف الفيلسوف إيمانويل كانط، معلناً: «وإني أوصيكم بالقضاء على الخيانة أينما وجدتموها، لأنه إذا لم نتخلص من الخيانات لا نبلغ الغاية.»[1]  هذه الوصية، ببعدها المطلق (أينما وجدتموها) وربطها الغائي بالغاية (لا نبلغ الغاية)، تجسد رفضاً قاطعاً لأي منطق نفعي أو تبرير عواقبي للخيانة، وتجعل من استئصالها شرطاً وجودياً لتحقيق المشروع القومي.

وتمتد جذور هذه الخيانة لتشكل «نفسية» و«اتجاهاً انحرافياً» ينخر في جسد الحزب، كما يحلّل سعاده في مقاله «المثالية الأولى».[2] موضحاً بروز هذا الاتجاه الانحرافي بشكل لافت أثناء غيابه القسري في المغترب. في غياب المثالية النظامية والعقدية الراسخة، يقول سعاده: «اتجهت الأعمال الحزبية نحو المظاهر، بدل الاتجاه الأول الصحيح الذي كان نحو البناء الداخلي وتأسيس القيم النفسية، الأخلاقية والمناقبية.»[3] وكان أخطر مظاهر هذا الانحراف «نشوء نفسية التسوية بين القضية القومية الاجتماعية، الكلية، الاجماعية وبين المآرب والمطامع الخصوصية، الفردية»، حيث «صارت القضية القومية الاجتماعية المقدسة مجرّد واسطة للأغراض الخصوصية».[4] ويضيف سعاده موضحاً خطورة «الاتجاه الانحرافي» على جسم الحزب وغايته، قائلاً: «لمّا صار العمل القومي الاجتماعي، في أحسن حالات الاتجاه الانحرافي المذكور، عبارة عن تسوية بين المنافع الخصوصية والهدف القومي الاجتماعي، ابتدأ التراخي يدب إلى جميع أقسام الإدارة الحزبية ويتسرب منها إلى الأوساط القومية الاجتماعية. وبلغت الحالة حد تعرّض الغاية القومية الاجتماعية الكبرى لخطر عظيم.»[5] ويستطرد سعاده بوصفه لحالة التراخي الحاصلة في الحزب بسبب الاتجاه الانحرافي والخيانة الصريحة لأصحاب التسوية:

«كان من وراء التراخي المذكور أن ضَعُفَ اليقين وروحية الصراع. وظهر هذا الضعف جلياً في إهمال إدخال ملبي الدعوة القومية الاجتماعية في صفوف الحزب وفي مسلكية الرفقاء عموماً والجدد خصوصاً وانحط معنى الطاعة وقيمة المسؤولية النظامية والواجب، فهبطت المعنويات هبوطاً مخيفاً وصارت حالة الكثير من المديريات والجرائد حالة جيش استسلم إلى العبث والفوضى فلم يعد يمكن ضبطه ولا استعماله في أية مهمة أو لأي هدف. أصبحت وحدة العمل معدومة بالكلية.»[6]

إن وجود المتلاعبين والانتهازيين في الحزب الذين يضعون العوامل الشخصية الأنانية في أولوياتهم ويسعون لتحقيق مطامعهم الشخصية قبل القضية القومية يعرّض الحزب للخطر الدائم. عن هؤلاء يقول سعاده: «إن أكثر الذين طردوا من الحزب السوري القومي كانوا انتهازيين تأتي مطامعهم قبل القضية القومية. وبقاؤهم في الحزب بعد ظهور غاياتهم وخياناتهم كان يجعل قضية الحزب في خطر دائم.»[7]

في رسالة إلى غسان تويني (09/07/1946) يتحدث سعاده عن اختبارات مرّة ومُحزنة أدت إلى خيانات متكررة من قبل أعضاء وضعوا مطامعهم الشخصية قبل القضية القومية. وعزى هذه الاختبارات «إلى ضعف العقيدة، وعدم رسوخ التعاليم المناقبية، وضعف الأخلاق»[8]، ويذكر منها:

«حوادث مؤامرة الخائن شارل سعد الذي كان منفّذاً عامًّا لمنفذية بيروت، وإساءة تصرّف فؤاد يعقوب مفرج بمشروع إنشاء «الشركة السورية التجارية» وتلاعبه بالأموال المجيبة لها، وإساءة تصرّف صلاح لبكي في المهمات والوظائف التي انتدب لها حتى أنه حين كان يشغل وظيفة «رئيس المكتب السياسي» كان «يلعب على الحبلين» لأنه كانت له مآرب نفعية خصوصية. وتبعه في هذا السبيل إميل خوري الذي عيّن مدة لعمدة الإذاعة، وتآمر ودسائس جورج حداد الذي شغل الحزب في عدة قضايا من دسائسه.»[9]

وبهذا المعنى، تتحول الخيانة من مفهوم أخلاقي مجرد إلى عائق استراتيجي يحول دون تحقيق الغاية القومية، خاصة عندما تتحول إلى «نفسية تسوية» تجعل من القضية المقدسة مجرد «واسطة» للمآرب الشخصية.

2.2 الخيانة كقوة تاريخية معادية للنهضة

لا يقتصر تحليل سعاده للخيانة على هذا الإطار العملي فحسب، بل يتعداه إلى تأطيرها نظرياً كخطر جوهري. ففي تحليله الجذري لها، لا ينظر سعاده إليها كمجرد انحراف أخلاقي فردي، بل يرفعها إلى مصاف «القوى المختلفة التي تعمل لمحاربة النهضة والقضاء عليها.»[10] ففي معرض تشخيصه لآليات مقاومة النهضة، يضع الخيانة كإحدى هذه القوى الفاعلة، التي «لا تقتصر على أفراد معينين، بل تشمل أحياناً فئات منظمة تدعي الانتماء إلى النهضة»[11]. وتعمل هذه القوة الخائنة بشكل منهجي على «تقويض النهضة من الداخل… بإثارة الشكوك ونشر الإشاعات المغرضة»، مما يجعلها سلاحاً خطيراً في الحرب النفسية ضد مشروع النهضة.

ويتسع الإطار النظري لتحليل سعاده للخيانة ليجعلها تجلياً من تجليات الصراع الكوني بين «مبدأ الحياة» و«مبدأ الموت«، كما ورد في مقاله «المثالية الأولى«.[12] ففي هذا الإطار الفلسفي الأعمق، لا تعدو الخيانة أن تكون أداة من أدوات «مبدأ الموت» الذي يعمل على «إفساد الحياة «ووأد أي إمكانية للنهوض. وبالمقابل، فإن المثالية الثورية التي يدعو إليها سعاده، والمتمثلة في التمسك بالغاية القومية والتضحية من أجلها، هي التجسيد الحي «لمبدأ الحياة» الذي يقاوم ذلك الإفساد. وهكذا، لا يُنظر إلى الخيانة بعد ذلك على أنها مجرد خرق أخلاقي، بل هي موقف وجودي معادٍ للحياة ذاتها، ومن ثمّ كان القضاء عليها، وفقاً لوصية سعاده، ضرورة حيوية لاستمرار «مبدأ الحياة’ وتحقيق النهضة.

ومن هذا المنظور الشامل، يقدم سعاده الحل الحاسم وهو «قطع الطريق على الخونة… وعدم التهاون في أمرهم»، مؤكداً أن التعامل مع الخيانة لا يحتمل المساومة، لأنها تمثل خطراً وجودياً على حياة الأمة ومستقبلها.[13] ويربط سعاده في تحليله بين الخيانة والجمود الفكري، معتبراً أن «لا نهضة بدون ثورة على التقاليد الفاسدة[14]«، مما يجعل التمسك بالماضي البالي شكلاً من الخيانة لمستقبل الأمة ولرسالتها النهضوية.


[1] سعاده في الأول من آذار، خطاب 1938، ص 50.

[2] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، المثالية الأولى (بقلم هاني بعل)، النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية، بيروت، المجلد 1، العدد 10، 1/6/1948.

[3] المرجع ذاته.

[4] المرجع ذاته.

[5] المرجع ذاته.

[6] المرجع ذاته.

[7] سعاده في الأول من آذار، خطاب 1938، ص 49.

[8] أنطون سعادة، الرسائل – الجزء الثالث، عمدة الثقافة، بيروت، 1980، «إلى غسان تويني»، 09/07/1946، ص 628.

[9] المرجع ذاته، ص 628-629.

[10] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السابع 1944- 1947، خطاب الزعيم في العيد القومي، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 71، 5/1/1944

[11] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد، «المروق من القضية القومية الاجتماعية»، الزوبعة، بوينُس أيرس، العدد 82، 4/11/1944.

[12] نطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن 1948-1949، المثالية الأولى (بقلم هاني بعل).

[13]  أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السادس 1942 – 1943، كنا وسنكون.. الخيانة تتكلم (وتتفلسف)، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 63، 15/7/1943.

[14] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد «التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي، المجلة، بيروت، المجلد 8، العدد 2، .1/4/1933