إلى أين ؟

الجنين في بطن أمه، إذا تجاوزته مرحلة نمو ما، أو تناست الطبيعة بطفرة ما، تصنيع عضو ما، سيولد وهو فاقد هذا العضو، وسيظل أشوهاً يعاني من النواقص، ويخسر من إمكانياته ما يفيد به نفسه وغيره، لا أريد من هذا المثال التبسيطي، أن أسقطه على الشأن المجتمعي في بلدان سورية الطبيعية، فالأمور واضحة تمام الوضوح، ولعل الندم والحسرة كقيم غير مجدية، تملأ فراغ الفشل الذي لا يمكن ردمه، طالما استمرت الدنيا في الارتقاء والتقدم، ليتحول هذا الفشل إلى قدر، علينا التعايش معه، دون فهم، أو حتى مقدرة على إدارته.

المظلوم هو صار مظلوماً ولو كان الأمر لمرة واحدة في حياته، فالظلم قد وقع عليه وسيتمر كذلك في وجدانه ومستقبله، حتى لو أنصف فيما بعد، والمهان كذلك، والمضروب المعذب في السجون والأقبية، كذلك أيضاً، فإلى متى ستستمر هذه الأحوال غير البشرية، التي تصلح خطأً أصغر بخطأ أكبر، وهل تفيد معرفة الأسباب، وكشف المتآمرين المتسببين، في إصلاح ما قد انكسر؟، ومن ثم التأسيس والتأثيث، على ما هو مكسور ومعطوب؟

اليوم تدخل البشرية إلى الثورة التكنولوجية الرابعة، أي سبقتها في هذا العصر الحديث فقط، ثلاث ثورات تكنولوجية، تضمنت أولها تكنولوجيا الإجتماع والحوكمة، وترافقت إرتقاءً حتى الثورة التكنولوجية الحالية، ويبدو أنها ستستمر مع الثورة التكنولوجية الخامسة وما بعدها، فهل استطاع المولود من الجنين الآنف الاعتراف بعطبه، أو محاولة تعويضه؟ وكذلك هل استطاع المظلوم أو المضروب المهان، أن يصبح سوياً؟ التجربة أكبر برهان، فمنذ أيام النهضة (بعد 1850) وحتى يومنا هذا، أي بعد (175 عاماً)، لم تستطع هذه البلاد الارتقاء، في تكنولوجيات الاجتماع والارتقاء، قيد أنملة، بل استرخت في أحضان الأسباب واكتشافها، كنصر مؤزر يفيد في أخذ العلم والاندفاع إلى الانتقام والثأر، ( لاحظوا الناصرية والبعثية ومن على منواليهما)، مع أن هذين الفعلين من خارج الموضوع تماماً، لا بل شاع في منجزاتهما، الإفلات من العقاب، كمنجز مكافأتي لتأييد ودعم، حوكمة خارجة عن التكنولوجيا المؤسسة للنمط البشري في العصر الحديث، وهو نمط مصالحي قانوني ينظم الحقوق والواجبات، ضمن بنية مجتمعية، قادرة على الاستجابة لاستحقاقات العصر، بمقدرتها على جمع وتوليف منتجات أعضاء المجتمع المنضوين في بنيته الحقوقية الحديثة، وفي هذا استنفار دائم لإمكانيات «المجتمع» بمعناه التكنولوجياتي، وزجه في التنافس غير الاختياري الذي تفرضه حيويات الشعوب، وربما ليس من القفز عن الواقع، سؤال «من نحن» إزاء حضور الذكاء الاصطناعي الحالي (كمثال)، وآفاقه غير الرحيمة، هل سنستمر بالغوص في أوحال مخلفات التكنولوجيات، أم سنرفع رأسنا فوقها ونرى ماذا حصل حولنا؟

لا أعتقد أن لدينا النية، وليس الإرادة أو المقدرة، على التنفس والنظر حولنا في هذا الهشيم الذي يسمى بلاداً، ففي أثناء سوق الرئيس الفرنسي السابق إلى السجن، نتيجة لخرقه القوانين الانتخابية ، وعلى الرغم من محاولات ساركوزي دفن مخلفات علاقته بالقذافي، التي لم تجديه نفعاً بالإفلات من العقاب، لما نزل نبحث عن المستبد العادل، تلك الكذبة الكبرى في تاريخ المجتمعات والحوكمات، ونرقص في الساحات تهللا لها، معللين النفس بالأخذ بالثائر من القاصي والداني، أو مباركة امتصاص الثروة الوطنية، على أنها ممارسات استراتيجية كبرى، قد تفضي بنا إلى مجرد سد الرمق، من خيرات بلاد تمتلك كل شيء، ولا تمتلك شيئاً في آن معاً، عبر إزاحة نهائية لتكنولوجيات الاجتماع والحوكمة من الحسبان، في استعادة تاريخانية للتراث، بإستبدال الكلاشينكوف بالسيف، كعلامة على الحداثة والتحديث، في آليات الشوكة والغلبة، كتمثيل ديمقراطي لأكثريات موهومة، أمام أكثريات تكنولوجياتية تجوب العالم، تستطيع أن تمثل شعوبها عبر القوانين التي تجبر السلطة على الشفافية والعلانية، تجاه أكثرياتها على الأقل، فهل كان ساركوزي قادر على إخفاء علاقته الخارقة للقانون مع القذافي، رغماً عن الأكثرية التي حملته غلى سدة الرئاسة (وليس السلطة)؟.

لن تذهب هذه البلاد إلى أي مكان، ليس لها إلا الماضي لتلجأ إليه، إنه الرحم الذي يعيش فيه الجنين باستراحة دائمة من مسؤوليات الحياة الدنيا، غير عابئ ولا مسؤول عن طفراته وتشوهاته، ولا عن المواد المسممة التي تدخل جسد أمه، وتؤثر فيه، ولا عن العالم الخارجي الذي يمور بالحركة والإنجاز، فهو في مكانه يقبل بما يقدم له، حتى لو كان سماً، أو طلقة نارية في صدغ والدته.

هل هذا تشاؤم؟ أم جلد للذات؟ أم هو استقراء لواقع تاريخي لا يرحم، أعتقد مما رأيته وأراه الآن، أن المعطوب لن يتعافى من عطبه دون الإعلان عنه، بشفافية يرعاها القانون، ويطال المعطوب، قبل المعطوب به.