التاريخ السوري الحديث: بين إرادة المقاومة وعبث الحكومات

الفترة الزمنية التي مرّت على الوطن السوري خلال ما يقارب الأربعين عاماً الماضية لم تكن منعزلة عن تداعيات السياسة التي عصفت بالعالم والأمّة السورية منذ مطلع القرن العشرين. فقد كانت سمة المرحلة في سورية، في النصف الأول من القرن العشرين، مطبوعة باحتلالين عسكريين هما الاحتلالان الفرنسي والبريطاني، نتيجةً لنتائج حربين عالميتين غيّرتا وجه المنطقة. وإلى جانب هذين الاحتلالين، شهدت سورية احتلالين آخرين بقيا حتى النصف الثاني من القرن العشرين وما زالا: إذ تنازلت فرنسا أثناء احتلالها عن كيليكيا والإسكندرون لصالح الاحتلال التركي، بينما وضعت بريطانيا كل إمكانياتها وقوتها لتمكين اليهود من احتلال فلسطين وتثبيت هذا الاحتلال بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، بالتنسيق مع القوى الاستعمارية الأخرى، والقوى السياسية الرجعية في بلادنا.

ومع النصف الثاني من القرن العشرين، انسحبت الجيوش الإنجليزية والفرنسية من سورية، غير أنّ الاحتلال لم يرحل فعلياً، بل تبدّل شكله إلى احتلال مدنيّ تمثّل في الحكومات التي نصبها الاحتلالان الفرنسي والإنكليزي على سورية. كما بقي الاحتلال اليهودي التوسعي الذي يحلم موهوماً بإقامة «إسرائيل الكبرى»، والاحتلال التركي الذي يسعى لاستعادة النفوذ العثماني في المنطقة.

وخلال تلك الحقبة، كانت الحكومات السورية تتبدّل تبعاً للإرادات الأجنبية، غارقةً في كياناتها الضيقة، وفي فسادها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري، حتى أنها قمعت النهضة السورية القومية الاجتماعية وأفكارها التحررية. ومع ذلك، فإنّ ما يزيد على أربعين عاماً مضت كانت حبلى بالحروب وتداعياتها الكبرى على الوعي القومي والمجتمعي في سورية والمنطقة.

لقد استمرّت الحكومات السورية في اتباع سياسات ضيقة بعيدة عن المصلحة القومية، فزرعت الشقاق بين المواطنين ولم تُولِ احتلال فلسطين من قبل اليهود أو الاحتلال التركي أي اهتمام. هذا الإهمال الحكومي دفع القوى الشعبية والأهلية، البعيدة عن سياسات تلك الحكومات، إلى التحرك والنضال لتحرير فلسطين من الوجود اليهودي والدفاع عن الكيانات القومية الأخرى. وهنا بدأ التصادم بين الإرادة الشعبية القومية وتلك الحكومات، فانقسم المزاج الشعبي بين من يوالي الحكومات، ومن يوالي الوعي القومي المعبر عن مصالح الشعب السوري.

وبينما كانت الحكومات تلهث وراء الاستسلام للإرادة الأجنبية والعدو اليهودي، أصرت القوى الشعبية الوطنية على الكفاح المسلح كخيارٍ وحيد للتحرر. غير أن هذه الإرادة الثورية اصطدمت بإمكانيات الحكومات التي سخّرتها لملاحقة المقاومين والحدّ من نشاطاتهم إرضاءً للقوى الأجنبية، إلى أن جاء عام 1982، حين شنّ العدو اليهودي هجوماً على المقاومة المتمركزة في لبنان، فاضطرّ المقاومون الفلسطينيون إلى مغادرة البلاد بعد معارك شرسة، بينما واصل العدو تقدمه حتى بيروت. وفي تلك اللحظة، كانت السلطة اللبنانية تتعامل مع الاحتلال كأنه حق، بل أبرمت اتفاقاً مع العدو اليهودي.

لكن الإرادة الشعبية الوطنية لم تستسلم. فقد انطلقت المقاومة المسلحة من جديد، وتمكّنت من طرد العدو من أغلب المدن والقرى التي احتلها. وقد أثبتت هذه المقاومة قدرتها على هزيمة العدو، وأقنعت عدداً من الدول بجدوى الكفاح المسلح في تحرير الأرض ورفض الإملاءات الأجنبية. وكانت من أبرز هذه الدول حكومة الشام والجمهورية الإسلامية في إيران، وإيران الدولة الصديقة تقاطعت مصالحها مع المصالح الوطن السورية في مواجهة العدو اليهودي ورفض إرادة المستعمر الأميركي والأطلسي.

وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، أثبتت الوقائع أنّ المقاومة قادرة على الردع وطرد العدو والمستعمرين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكانية. كما أن انحياز حكومة الشام إلى خيار المقاومة جعل منها حكومة مقبولة شعبياً في سورية ولبنان على السواء. وفي هذه الحقبة التاريخية، انتصرت الإرادة الشعبية على العدو اليهودي، وتشكل في بلادنا والعالم العربي محوران: محور المقاومة الذي يمثل إرادة الشعوب ومصالحها، ومحور الخنوع الذي يمثل المصلحة اليهودية والاستعمارية. فتزعّمت الشام وإيران المحور الوطني الممانع، بينما انخرطت غالبية الحكومات العربية في المحور المستسلم للإرادة الاجنبية.

أما حصاد العقود الأربعة، فقد جاء واضحاً: المقاومة حقّقت تحرير الأرض، وفرضت معادلة الردع على العدو، ومنعت تصفية القضية الفلسطينية رغم تواطؤ غالبية القيادات الرسمية، وحافظت على مواردنا الطبيعية من النهب، وأعادت بعث الوجدان القومي تجاه الأرض السورية المحتلة. وأثبتت أن الحرية والسيادة قيمتان مقدّستان في وجدان الشعب السوري، وأن الروح المقاومة صارت أكثر تجذرا في النفسية السورية العامة.

في المقابل، ماذا حقّق محور الحكومات المدعوم من الأمريكان؟ لقد أثبت للشعوب فساد هذه الحكومات وسوء إدارتها وخضوعها للمستعمر، وعرتها أمام الشعب بتبعيتها السياسة الأمريكانية وللوحشية اليهودية. وأظهرت عجزها عن حماية الأرض وتأمين حياة كريمة لشعبها، بل أكدت أنها تبيع الوطن مقابل مصالحها الضيقة والمنافع الفردية.

لتعلم تلك الحكومات المستسلمة، وليعلم العدو اليهودي والمستعمر الطامع، أنّ الإرادة الشعبية السورية قد نهضت بالفعل، وأنها قادرة على تغيير وجه المنطقة. أما رهان الأعداء على أن حجم الدمار الذي لحق بسورية سيكسر إرادة شعبها، فهو رهان واهم تماماً كوهْمهم بأن اليهود شعب، وأمّة ووطن ودولة.