في أعقاب النهضة الأوربية الكبرى في القرنين (18 و19)، بدأ تشكل ما يمكن تسميته بالنظام العالمي، لضرورات التفاهم بين الشعوب على تنظيم الحيويات القومية، القائمة على الإنتاج وتوسيع الأسواق، وهذا ما احتاج، ولما يزل محتاجاً، لفهم الشعوب من خلال تفاعلها مع السلعة، ورصد الحاجة إليها، ما يفتح باب الحاجة إلى الوعي، على سبيل تأسيس هيئة مجتمعية قادرة على التعاطي مع هذا الشأن المحدث، بصفة تمثيلية عن أعضاء التجمع السكاني الذي عليه أن يتحول أي “مجتمع” يقوم على المصالح وتنظيمها كحقوق وواجبات، تعطي الهيئة التمثيلة له المقدرة على تمثيله، منطلقة من قدرة المجتمع من تحويل إرادة الناس إلى نصوص معلنة، تقوم الشعوب بممارسة محتواها، في إعلان عن نجاح ممارسة اللحمة الاجتماعية، والانطلاق إلى ممارسة ما هو أرقى منها والناتج عن تراكم الإنتاج الإبداعي، تلبية لحيويات المعرفة الأحدث، أو ما يمكن تسميته “إمكانية ممارسة الوعي”.
لقد تلقفت كل الكيانات السورية عناوين هذا الوعي، وضمتها إلى ثقافتها اللغوية (الشفهية)، مثل (الوطن، القانون، الحقوق، الواجبات، الحرية، المساواة، العدالة ؟؟ إلخ إلخ)، ولكنها لم تدرجها في ثقافة اللغة التعاقدية كمنافع متبادلة بين الناس تؤدي إلى ولادة “مجتمع” يمارس تطبيقات الوعي، وليس مجرد الوعي بالوعي، بل ترجمة الثقافة الشفاهية وبالممارسة إلى ثقافة تعاقدية، تسعى عمليا إلى إنتاج تحضرها كجزء أساسي من إنتاجها الاستهلاكي الذي يكمل كفايتها، ويصون منعتها.
النظام العالمي الأول قدم للبشر الحرب العالمية الأولى المسماة (الحرب التجارية)، ولكن النظام العالمي لم يتفرمل على الرغم من الحرب العالمية الثانية، بل استمر بالتنامي والصعود، مؤدياً إلى تصنيف جديد وتراتبي لتجمعات الكرة الأرضية السكانية، وصار هناك عوالم مختلفة أهمها العالم الثالث، الذي لما يزل بحاجة ملحة إلى ممارسة الوعي بالمعرفة المعاصرة، القصد هنا “الممارسة” وليس العلم بها، وعلى هذه الممارسة وحقيقتها، تنفتح البوابابات الإلكترونية بين العوالم البشرية الأول والثاني والثالث، فإذا كانت هذه الممارسة للوعي صادقة وحقيقية ومتمثلة لجميع الأداءات المعرفية، دون خوف على السلطة أو تراثها، تنفتح هذه البوابات، للعبور إلى عالم أكثر حيوية، أي أكثر إنتاجاً وإبداعاً، وبالتالي حضوراً في النظام العالمي السائد في تلك اللحظة، التي هي بالضرورة حديثة وحداثية، لأنها مفهومة من الآخر الذي يسعى إلى مصالحه ولا يريد عرقلة لها.
ولا مرة كان النظام العالمي متساهلاً مع المقصرين في الالتحاق بتطبيقات الوعي، تحت أي عذر يبرر هذا التقصير، فالعجلة تدعسهم في دورانها المتتالي غير النهائي، لذلك تبدو الدعوة لإنهاء هذا التقصير، إما كجلد للذات، أو كمعارضة للسلطة الرافضة لممارسة تطبيقات الوعي، التي أضحت في العموم بدهية، ولكن التقصير يجعلها معقدة لدرجة وصفها بإهانة المقدسات، التي تستلهم السلطان منها صورتها المهيبة بدعم من العنف البدائي.
على الرغم من غنى البلدان السورية بالإمكانيات المتنوعة، إلا أنها لم تستطع حتى اليوم من مغادرة الأبواب الخلفية للعالم الثالث، فالنظام العالمي يرفضها لأنها لا تحقق الشروط الموضوعية الدنيا لهذا الارتقاء، فليس لبلدان منعت فيها الطباعة لمدة 250 عاماً، بلداناً قارئة أو تعنى بالتأليف والنشر، فهذه من مواصفات الثقافة الشفاهية التي لا يمكنها إقناع السلطات بأهمية الطباعة، على الرغم من اعتراف العالم بأجمعه بضرورتها، للدخول الى النظام العالمي الأحدث، بل أن الأدهى من ذلك عدم شعور السكان بضرورة الطباعة، والمطالبة بإلغاء حظرها، والقيام بثورات للحصول على هذا الحق.
لا أحد في البلدان السورية يهمه ( أو همّه سابقاً) نوعية وكيفية الحوكمة التي يتلقاها، ليس بسبب قلة الوعي بل بسبب عدم ممارسته لهذا الوعي، فلا يهمه إذا كان أتوقراطياً أم دكتاتورياً أو حتى عشائرياً أو غيره، بينما أنجزت الديموقراطية مسارها الإرتقائي الطويل بواسطة ممارسة الوعي كحق من حقوق الحياة، ضمن أطر وقنوات قانونية وحقوقية تحترم حق الحياة والكرامة، كمؤسس فعلي وواقعي لممارسة الوعي الخاضع لمصلحة الجميع، من هذه البوابابة يمكن الدخول إلى النظام العالمي مهما كان جديداً، بصفة شريك، وليس بصفة زبون أمّي يمكن التلاعب به وصفعه على رقبته كمتخلف لا يملك الإمكانية للدفاع عن نفسه، نظراً لفراغ الوعي المجتمعي من خاصية ممارسة المعرفة بإخلاص وعزيمة صادقة. فالنظام العالم لم يحمِ ولو لمرة واحدة المغفلين، حتى لو تم تمثيلهم من قبل عتاة السياسة والحوكمة، وسجلات جمال عبد الناصر وأدبيات مرحلته التي كشف عنها حديثاً، تعتبر دليلاً دامغاً على فقدان الوعي لمهمته في أرض الواقع، وبالتالي الانفلات في فيافي الوهن والضعف قرب بوابة العالم الثالث الخلفية التي تؤدي إلى عالم رابع وربما أكثر.
هل هو خضوع أن ينضوي شعب من الشعوب في النظام العالمي؟ …. ربما نعم، وعلى الغالب نعم، ولكنه في نفس الوقت مؤشر حقيقي على عدم ممارسة الوعي في حال أن هذا الوعي قد تم العلم به، وهنا تختلف مسألة الانضواء هذه، بين صفة شريك في هذا النظام العالمي، وصفة المفعول به .. وفيه.

