نتحدّث كثيراً عن «الدولة الوطنية» في العالم العربي، وكأنها حقيقة قائمة، ومكتملة النمو، ومعصومة من الخطأ.
لكن إن نظرتَ جيداً، ستراها أقرب إلى هيكل عتيق: واجهة رسمية صلبة، ومن الداخل تصدّعات مزمنة.. ليس بفعل مؤامرة فقط، بل بتراكم الفشل وتآكل الثقة، وفقدان التوازن بين السلطة والمجتمع.
الدولة التي وُلدت بعد الاستعمار، لم تولد من رحم شعبٍ يطالب بالحرية والكرامة، بل من رحم تفاهمات بين النخب ومراكز النفوذ العالمية.
ولذا، منذ البداية، بُنيت على قاعدة هشة: «حكم مركزي شديد»، و«مجتمع مشتبه به»، و«وطنية مصنّعة».
فهل نحن أمام تآكل حقيقي للدولة، أم أننا نُفاجأ الآن فقط بأنها كانت منخورة منذ زمن، ونعيش لحظة سقوط الأقنعة؟
الخطير أن هذا التآكل لا يُعبّر فقط عن ضعف في الأداء أو الاقتصاد، بل عن غياب فكرة الدولة كـ «حاضنة للجميع».
تحوّلت الدولة من كيان ضامن للعدالة والمواطنة، إلى جهاز لإدارة السيطرة والولاءات.. وأصبح المواطن يتعامل مع دولته كأنها خصم: يتجنبها، يخشاها، وربما يهاجر منها.. وهكذا تفقد الدولة أغلى ما تملكه: شرعيتها في نفوس شعبها.
من يلاحظ المشهد السوري، اللبناني، اليمني، السوداني.. يدرك أننا لا نعيش لحظة ضعف عابر، بل انهيار تدريجي لثقة الناس في أن الدولة يمكن أن تمثّلهم.
المواطن لم يعد ينتظر من الدولة مستشفى أو تعليماً، بل فقط ألا تعرقله في طريق الهروب.
فما العمل؟
البديل ليس الفوضى، بل إعادة تأسيس الدولة، لا كأداة للحكم، بل كمساحة توافق حقيقي.. وهذا يحتاج إلى نخبة تمتلك شجاعة إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتؤمن أن الكرامة والحقوق ليست ترفاً بل ضمان بقاء.
باختصار: الدولة لا تتآكل فقط لأن «الآخرين» أرادوا لها ذلك، بل لأنها أخفقت في تجديد مشروعها الوطني.. وإن لم تنقذ نفسها الآن، لن تنقذها خرائط ولا مؤتمرات.. بل ستصبح مجرد ذكرى في كتب التاريخ.
سامي زرقة

