«طانت منيرة » والتنبؤ بالكوفيد والتنصّت السيبراني!

في ثمانينات القرن الماضي عاشت في الضيعة سيدة تدعى منيرة مع زوجها الذي كان يعمل في ورش تلبيس الحجر الصخري ، وكان المعلم ميلاد من أشهر نحاتي الحجارة في تلك الأيام . يشذّب الصخور بالمطرقة والإزميل ويجعلها مربّعة ويرفعها بالحبال على السقالات مع الأسمنت المخلوط بالتراب والماء ، ويعمد إلى تلبيس واجهات البيوت والبنايات . وكان المعلم ميلاد يتباهى أمام الناس، أن البنايات التي لبّسها حجر تدوم عشرات السنوات طالما البناء يبقى متينا . وبالفعل كان للمعلم ميلاد سمعة ممتازة لمهارته وانجازاته موصوفة في القرى والمدن المجاورة، لكن شاء القدر الأسود وسوء الطالع أن يلعبا لعبتهما القذرة مع الزوجين الطيبين،  ففي نهار مشؤوم سقط المعلم ميلاد عن السقالة من علو طابقين أو أكثر وانكسر ظهره، فتحوّل من معلم العمار الماهر والمنتج ؛  إلى مقعد مسكين يترصده شبح الفقر والفاقة !

  نقل العمال المعلم ميلاد إلى منزله محمولاً على سلم خشبي، وتقاطر أهل القرية يعودونه و يندبون حظّه العاثر ويقولون ( تعتّر ) المسكين كيف ستعيش منيرة وتعتني بزوجها وتصرف عليه .

 ولكن منيرة  لم تستسلم فقد استعانت بمنزلهما الكبير نسبيا  وسط الضيعة ، قسمته الى قسمين :  الغرف الداخلية  للمعيشة  حيث يرقد ميلاد المسكين على فراشه مع المطبخ والحمام . أمّا الدار والشرفة الملاصقة للطريق فقد حوّلتهما منيرة إلى دكان حيث تتكدّس البضائع والسمانة في الدار أما الشرفة فقد خصّصتها للفاكهة والخضار المصفوفة بعناية على المفارش الخشبيّة ، و كانت والدتي تطلب منّا دائما أن نشتري الشوكولاتة والسكاكر من عند «طانت منيرة» مردّدة على مسامعنا  : «حرام نفّعوها لهالمرا المسكينة » !

لم نكن نقصّر في اتباع الوصيّة ، إذ كان الأولاد يقصدون دكّان منيرة للشراء ، نشتري ألواح الشوكولاتة وعلكة تشيكلتس بالعلبة الصفراء ، و لاحظنا أن ثمة جملة من الأمور الغريبة تحصل في تصرفات « طانت منيرة» ، إذ كانت تخاف كثيرا من الجراثيم بشكل هستيري ولا تلمس المال النقدي بل تفتح جارور المكتب الخشبي، وتطلب من الزبون أن يرمي الليرات فيه، و تلبس قفازات طوال الوقت ولا تخلعها أبدا .

وكانت القفازات آنذاك مطاطيّة سميكة من تلك التي تستعمل لجلي الصحون ، فلم يكن شائعا القفاز الطبي من اللاتكس المعروف الآن ، وعندما يسألها أحدهم لماذا تلبس القفازات تجيبه بلهجة مؤدّبة : ولو يا حبيبي ( المكروب) متلّا البلد .

وإذا اقترب منها أحد الأولاد لمسافة خمسين سنتم ، تجزره مؤنّبة :

ابعد عني ، أوعا تلهت بوجّي !

ثم توجّه كلامها لبقيّة الأولاد :

«يلّي بقرّب منّي وبيلهت بوجّي بدّي خبّر أمّو خليّها تشكيه لبيّو ت يفقعو قتلة» .

و كذلك كانت «طانت منيرة» تستعمل “الوزرة ” كمامة ، خاصّة  عندما يأتي تاجر الخضار لإنزال الصناديق ،  وكأنّها بذلك قد تنبّأت بالأوبئة و انتشار الكوفيد قبل أربعين عاما .

لم ينته الأمر عند هذا الحدّ ، «فطانت منيرة»  كانت تخشى الخروج الى ما بعد عتبة شرفة منزلها إلا في الحالات الطارئة ، فكان الصبيان الأشقياء يستدرجونها لتخرج وتعطيهم المشتريات ، بذريعة أن أحذيتهم متّسخة بالوحل ، وحين تصبح تحت السماء تبدو مضطربة وتصرخ :

انتبهوا مِن يصوّرونا …

فيصرخ الأولاد بصوت واحد :

مين يا «طانت منيرة »؟ مين عم يصوّرنا ؟

فتتأفف و تبدأ تردد اللعنات و كلمات  العتب وتقول :

مين يعني ، شو ما بتعرفوا ؟ هنّي الدول العظمى يلّي بدن يتجسّسوا علينا و يستعبدونا!!….

لم نكن نحن الأولاد حينذاك ، ندرك أن ما تقوله تلك السيدة سوف يتحقق بعد عقود من الزمن ، بل كنّا  نظن أن ما تقوله «طانت منيرة »هو بسبب وضعها الصعب مع زوجها المقعد و ظروفها القاهرة .

 ولكن حين حلّ الوباء ضيفا ثقيلا و حصد الأرواح بلا هوادة ، ومن ثمّ تطورت التكنولوجيا السيبرانيّة وأخذوا يراقبوننا على عدد الثواني يحصون أنفاسنا و يتعقّبون بصمات وجوهنا ، و يوزّعون الموت القادم من فوق على الأبرياء العزّل ، أدركت حينها أن «طانت منيرة » كانت سيدة رائية من القرن العشرين تنبّأت بأحداث يومنا الحاضر  هذا ولم ندرك أن هواجسها و مخاوفها كانت في مكانها ، «طانت منيرة » و «عمو ميلاد» صارا في دنيا الحق كما يقال ، لروحيهما السلام والراحة  فقد أصبحا بمنأى عن شرور هذه الحياة و مآسيها !