الأصالة والأصلية

العقل هو نتاج غير مسبوق ، مبني على نتاج عقل سابق، وهنا نقصد ولو درسياً، أن هناك عقل أوروبي، أو عقل عربي وإلى ما هنالك من تسميات لنتاجات معرفية، ذات فواصل زمنية أو جغرافية (بيئية)، وكذلك أيديولوجية، ولكن العقل هو واحد في هذا العالم، فالكل يعطي الكل، والكل يأخذ من الكل، دون إحساس بهذه الفواصل والحدود، ولعل فكرة تنظيم الاجتماع البشري وإدارته، هي من أكثر نتاجات العقل تداولاً بين شعوب الأرض عبر التاريخ،  ولا يعني شيئاً استعارة أو أخذ مفاهيم هذا النوع من المنتجات الفكرية ومقاربتها مع المنتوج المحلي للعقل، حيث لا خوف على أو من هذه البيئة، بما يخص النجاح أو الفشل، لأن المسألة هنا متعلقة بعقلنة الأداء البشري، وطبعه بطابع التحضر، وهنا لا بد من الإشارة والتأكيد على نجاح الفكر الأوروبي ( كحقيقة واقعية )، لسبب بسيط أنه لم ينحصر في أوروبا وحدها، بل جاب العالم بتجارب تقارب هذا العقل، ولا تستنسخه، وهناك تجارب متنوعة حتى ضمن نطاقات هذا العقل الجغرافية والبيئية، حيث لا مكان «للأصالة» في ترتيبات وتفضيلات الأختيار بين العقل المحلي والعقل العالمي ( الأوربي تحديداً)، فالعقل الأوربي هو الأنسب، وهو ما أثبته الواقع والوقائع، وما الانهزامات المحلية في الكثير من أقطار الدنيا، إلا في العناد الجزافي في البحث عن التأصيل (الأصالة)، لتسييد عقل على عقل، وهي معركة من خارج الموضوع تماماً، لإنها وببساطة من خارج الإنجاز الواقعي الذي حققه هذا العقل.

ولكن في خط موازي، مع أنه معاكس الاتجاه، نلحظ أن هذا العناد الجزافي، لا يعتمد ولا يستطيع أن يعتمد، على الفهم التكاملي لمنتجات العقل «العالمي»، بسبب الخوف على الأصالة، وفي هذا الخوف تكمن الجزافية ومعارك من غير مصلحة، في طاحونة دموية تريد كليب حياً، على الرغم من تمثل جميع منتجات العقل العالمي ( الأوربي)، دون إعتراف بأحقيته في التطبيق إخلاصاً للأصالة، مع أن هذا الفكر مؤقت نظراً لطبيعته المعرفية الإرتقائية، التي يفرضها التطور السابق علية، بمعنى إنتاج نماذج بشرية (مجتمعية) جديدة مختلفة عن سابقاتها، وبالتالي فإن التطور يبنى على وقائع كانت جديدة في حينها، والآن أصبحت غير صالحة، أو مختلفة، فالعقل يوّلد إنساناً جديداً، لا يلبث أن يتعاتق ويهتلك، مفسحاً الدرب رغماً عنه للعقل الجديد، المنتصر في ترويض القوى القديمة المعاكسة له، وتعميم إستعمال منتجات العقل الجديدة.

هذا ما يضع مجتمعات ( الأصالة) في مأزق وجودي، لافكاك منه، وكلما ازدادت الفترة الزمنية الفاصلة للاعتراف بمنتجات العقل ( التي أصبحت معولمة الآن)، ازدادت كمية الهزائم، وازدادت كميات الويل الواع على تجمعات (الأصالة) السكانية، فاركب التحضر يمضي قدماً غير آبه بمن يلحق به كائن من كان، أصيلاً أم هجيناً، لا بل يشكل فضاءً تسويقياً هائلاً، أثناء البحث عن الأصالة، ومن ثم الاتفاق عليه، وكله ماضٍ لم يعد صالحاً، للاستهلاك الآدمي.

مأزق الأصالة هو من كميات الخوف متنوع الأشكال والأبعاد عليها، على الرغم من كل وضوح حالة الهجانة عليه، فليس هناك من حالة أصالية مفردة على قيد الحياة، فكلها فرمها التحول المعرفي انطلاقاً من عصر النهضة الأوربي (غير المجاني)، وإنما هناك ادعاء أصالي يسهل دحضه وتخييبه، ولكن الخوف كأعظم مؤثر وجودي، يقدم حلولاً عنادية، تشبه جداً مواجهة الدبابة بالسيف، والحصاد معروف بالبداهة، هذا الخوف على أنواعه، هو الحبل الذي تغزلة تجمعات الأصالة السكانية لتشنق نفسها به، والمطلوب هنا تفكيك وإنهاء هذا الخوف، وإنهاء صناعة المشانق الذاتية، وليحصل ما يحصل، فليس هناك أسوأ، من صناعة المشانق للذات.

لم تعرف تجارب استخدام منتجات العقل العالمي ( الأوربي وتطبيقاته المختلفة)، هذا الويل بالمقارنة مع مجربي إقامة الأصالة، لأنها بالأساس لم تخف من هذه المنتجات، بل ظهرت «أصالتها» في كل تجاربها العقلانية المعرفية، ولم تصب مجتمعاتها التقليدية بأي أذى قاتل للحياة بمعناها الواقعي زمانياً ومكانياً، (اليابان نموذجاً)، بل حملت «أصالتها» على كتفيها، وسارت بها في عوالم النجاح، ولكنه لم تفتح معركة بينها وبين هذه العوامل، فليس من منتج إبداعي ياباني خالٍ من تأثيرات أصالته، حيث يفترق المعنى هنا، بين (الأصالة) و (ألأصلية)، وهما كلمتان متقاربتان باللغة العربية، وربما للخلط بينهما تأثير قوي على على المفهومين المختلفين، ولكن في العموم، الاختلاف واقع في صفة الخوف والتخويف، بما يعني تماما الشوكة والغلبة المعادية لكل اقتراب من الأصالة كأولوية حياتية، تتعاكس تماماً مع أولوية الإبداع، الذي هو بالتعريف إنجاز غير مسبوق.

المطلوب وبشكل واضح ولا يقبل المواربة، هو الإبداع الأصلي المبني على المعرفة الآنية، أو ما وصلت إليه الأمور المعرفية، من تفكير وممارسة، خصوصاً مع فشل جميع التجارب الأصالية وهزيمتها واقعياً، أمام الأصلية كحركة إبداعية على كافة الصعد، لقد آن الأوان لاستبدال هاتين المفردتين عبر إعادة شرحهما من جديد، للوصول على إجابات وجودية تحدد المصائر الاجتماعية والهوياتية، لقد أفنيت الكثير من الهويات المتعنتة (العنادية) في التاريخ، نتيجة لذلك الخوف المدقع من العقل الإبداعي، بحجة أنه مستورد ولا يناسب الأصالة، بينما حافظت الأصلية على ديمومة مجتمعاتها، بسبب تناسبها وقبولها بمنتجات العقل المتلاحقة، ربما يمكن اعتبار جائزة نوبل كإحصاء مؤشر على سعي المبدع غير الخائف من وعلى أصالته، لاستمرار كينونته كهوية مجتمعية تستحق البقاء.