التضليل الاعلامي وسياسة التجهيل! الميديا في تصرف سياسات السلطة الجائرة

في مقابلة أجراها الكاتب جان فرانسوا مار ميون مع عملاق الميديا ريان هوليداي مدير شركات التسويق والكاتب في صحيفة( نيو يورك اوبزرفير) New York Observer، صرّح هذا الأخير أن وسائل السوشيال ميديا غير مأمونة، وهي تستعمل للتضليل والكذب والتسويف من أجل جرّ الرأي العام الى التفكير بطريقة معينة ومؤطرة لغسل عقول الناس وتغطية صفقات سياسية واقتصادية كبرى، تضرّ بالمواطن والوطن ومستقبل الناس العاديين وترمي بهم في الحفرة من أجل مصالح أقطاب وزعماء العالم الشخصية، والمشكلة أن الجماهير متروكة لذاتها، ولا من حسيب أو رقيب ..

كان ريان هوليدي قد ألف كتابا في بداية القرن الواحد والعشرين بعنوان:

«صدقوني أنا أكذب عليكم»، نعم وبكل بساطة، عالج فيه الكاتب المخضرم العديد من المواضيع، ومن أهمها أن غالبية الصحفيين في الولايات المتحدة يعمدون الى استقصاء مصادر معلوماتهم من الانترنت والبلوغات المتوفّرة بغزارة وعلى المواقع الإخبارية والإعلامية التي من المستحيل التأكد من مصداقيتها.

هكذا صار عمل الصحافة في أيّامنا من أجل الاستحصال على الأخبار والمعلومات من دون التأكد من الذي يقف وراءها.

 ومن المؤسف أيضا أن الكل يعلم أن معظم هذه المواقع لا تعتمد على المصادر الموضوعيّة الموثوقة ولا يمكن أن يثق بها القارئ في كل الأحوال، ولكن القطار يمشي دون هوادة.

كما يضيف الكاتب أن زمن الصحافة العريق قد ولّى، مثل زمن صحيفة نيويورك تايمز التي عمّرت 100 عام، وقد أصبح عمل الصحافي الوحيد هو خلق الإثارة والخوارق من أجل حصد العائدات والمكاسب الماليّة من شركات الدعاية، لقد أصبحت الصحافة موبوءة بالتزوير والأخبار المختلقة المركّبة مثل البازل، هذا ما دفع برجال السياسة الى إنفاق الملايين لبث المعلومات المزيّفة والمغلوطة المختلقة كيفما اتفق، من خلال( التويتر سابقا ) [ منصّة إكس حاليا ]، والهدف كما قلنا سوق المجتمع الى حيث يريد زعماء السياسة هؤلاء تبعا لمصالحهم، في كل أنحاء العالم يسيطر المتسلّطون الذين يقبضون على مصائر الشعوب، من أجل التلاعب بالحقيقة وخلق مفاهيم وقيم جديدة وأنماط عيش وأذواق وحتى إعادة اختراع الدين (الدين الإبراهيمي الجديد) وإعادة كتابة التاريخ من أجل معركة اقتسام العالم في صراع الإمبراطوريات المتوحشة .

وباختصار نستطيع أن نستنتج ما آلت إليه طريقة عمل حكومات العالم وسلطاتها السياسية في زمننا الحالي:

استبدال القمع وإرهاب النّاس والمعارضة بالتصفية المباشرة، بالتضليل الإعلامي وإغراق الجماهير بالأخبار الجانبية التافهة والتي لا تقدم ولا تؤخّر حتى تمرّ الصفقات والاتفاقات في الكواليس السريّة على ظهر الشعوب الغائبة عن الساحة

و «السكرانة» بأوهام الميديا.

و للأمانة التاريخية لا بدّ لنا من أن نذكر أن حكّام العرب استعملوا مثل هذه الوسائل الإعلامية التضليلية في القرن الماضي، وكم من مرة كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومن بعده الرئيس أنور السادات، يسكرون الشعب المصري بأفلام الدراما المصرية الطويلة ومواضيع الحب والغرام وفضائح الفنّانين وقصص الزواج والطلاق التي تتناولها الصحافة الصفراء بينما البلاد تعيش أزمات ماليّة واقتصاديّة وتهديدات خطيرة، يعمد جهاز المخابرات المصرية على طمسها من خلال تسهيل هروب سجين نصّاب ومحتال كبير لتضجّ الصحف والجرائد بأخباره، فيضلل الشعب عن المشكلة الأساسية والأخطار المحدقة بالبلد، وأيضاً من أجل تخدير صراخ البطون الجائعة .

في لبنان أيضا أيام حكم الرئيس فؤاد شهاب من سنة 1958 الى سنه 1964 وكان تلفزيون لبنان في بدايته منذ اوائل الستينات، حين اشتهرت حلقات أحد البرامج الناجحة على التلفزيون، أخبرني أحد المستشارين في القصر الجمهوري أن فؤاد شهاب حين كان يريد إلهاء الناس عن أحداث مهمة ومصيرية، يرسله إلى صاحب البرنامج وينقده مبلغ 500 ليرة لبنانية آنذاك ويقول له بدي منك حلقة «بتبكّي» الحجار والناس على جمعة !،

فيقوم الكاتب ويضع سيناريو حلقة تلفزيونية مبكّلة، حيث الابن العقوق يبتزّ والدته الأرملة وحتى أنه يحاول ضربها، ويأخذ مالها ليبذّره على موائد القمار وتأتي الأم شاكية إلى صاحب الفكرة لشكو له أخلاق ابنها الرديئة، فتبكي أمامه فتبكي معها كلّ أمّهات لبنان. ينشغل الناس بما يعرضه التلفزيون دون ان يدركوا ما يحصل في أروقة قصر الحكم والمشاكل السياسية. أمّا اليوم فقد أخذت وسائل السوشيال ميديا هذه السيرة وهذا الدور: التلهّي بقشور الميديا فبركات الإعلام في حين أننا نخوض أخطر مرحلة في تاريخنا وقد علقنا في حياض لحظات الفناء وسكرات الموت كما عصفور علقان على قضيب الدبق، بسبب الضمائر المباعة والإعلام الساقط المأجور!

ختاما لابد لي من أن أذكر بعض مما جادت به مدرسة فرانكفورت النقديّة حول موضوع السيطرة على الميديا وتاليا استعمار العقول وتوجيه الأفكار حيث أعاد الفيلسوفان وعالما الاجتماع هوكنهايمر وأد ورنو في كتابهما «جدل التنوير» تعريف الجهل بوصفه عملية منظمة لإنتاج الوعي الزائف عبر الثقافة الجماهيرية والإيديولوجيا، مما يخضع الأفراد لهيمنة العقل الأدائي( من آداة) ومفرزاته وأكمل هربرت ماركيوز هذا الاتجاه معتبرا أن الجهل يسهم في خلق الإنسان ذات البعد الواحد الذي يفتقد القدرة النقديّة ويقبل بأنماط السيطرة القائمة .